molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: شهر رمضان - رضا عبد السلامي الأحد 6 نوفمبر - 3:21:08 | |
|
شهر رمضان
رضا عبد السلامي
الخطبة الأولى
إن النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظَرَة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرّفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدًا يقيّدها به حتى لا تشرد ـ فإنها تشرد بالمعصية وتقيّد بالشكر ـ ووفقه لعلم يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصّره بالطرق التي تسدّها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.
يحكَى أن أعرابيًا دخل على الرشيد فقال: أمير المؤمنين، ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقّق لك النعم التي ترجوها بحسن الظنّ به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرَها. فأعجبه ذلك منه فقال: ما أحسن تقسيمه.
ومن هذه النعم التي قد لا يشعر بها العبد وهو فيها أن يمد الله في عمره، نعم، إذا مد الله في عمر العبد فهذه نعمة عظيمة ينبغي له أن يحمده ويشكره عليها، وأن يندم على ما فوته على نفسه من الخير، وأن يغتنم ما يكرمه الله به من المواسم والأعياد ليتقلّب القلب، يرجو بذلك الثواب والدرجات، وخاصة عند نزول النفحات، فمن عظيم نعم الله أن يبلِّغ العبدَ مواسمَ يعينه بذلك على أمر دينه وآخرته، فعن ابن عمرو قال: قال : ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)).
قال: ((إن الإيمان ليخلق)) أي: إن الإيمان ليبلى ويخلق كما يبلى الثوب، أي: كما أن الثوب مع مرور الزمن يتلاشى ويتقطع ويتقادم، فكذلك الإيمان يخلق ويبلى ويتقادم مع مرور الزمن، فيحتاج هذا الإيمان إلى ما يجدّده من جديد، كرمضان والجمع والجمعة تتكرر لتجديد الدين وإعطائه دفعًا قويًا يرتقي به المسلم إلى أعلى المقامات والدرجات من جديد، بل روي عنه : ((إن الإيمان ليصدأ كما يصدأ الحديد))؛ لذلك أمرنا أن نسأل الله تعالى أن يجدد لنا الدين والإيمان.
ومن هذه المواسم ومن هذه المناسبات العظيمة شهر رمضان، هذا الشهر التي ما فتئ أهل العلم والمعرفة بهذا الشهر يطلبونه ويسألون الله أن يبلغهم رمضان، كم في هذا الشهر من الخير والرحمات والبركات، بل من عظيم شأن هذا الشهر أن الله يعين العبد وييسر ويسهل له فيه سبل الخير والطاعة.
فعن أبي هريرة قال: قال : ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر)).
قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)) أي: سلسِلت الشياطين وشدَّت بالأغلال، وكذا مردة الجن وهم المتجرّدون للشر، وهذا أول علامة ودلالة على فضل هذا الشهر، أن الشياطين ومردة الجن يصفدون ويسلسلون، فيضعف تأثيرهم ووسوستهم على المسلم، وقد قال أهل العلم: الحكمة في تقييد الشياطين وتصفيدهم كيلا يوسوسوا في الصائمين. ولعل الأمارة والأثر يظهر إذا لاحظنا أن أكثر المنهمكين في الذنوب والمعاصي يرجعون في هذا الشهر إلى الله تعالى.
ثم قال: ((وغلقت أبواب النار)). نعم، تغلق أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتفتح أبواب الجنة فلا يغلق منها باب، وفي هذا جاء عن حذيفة أنه قال: ((يا حذيفة، من ختِم له بصيام يوم يريد به وجه الله عز وجل أدخله الله الجنة)) رواه الأصبهاني وهو صحيح. فمن ختم له بصيام ـ أي: مات وهو صائم ـ أدخله الله الجنة بشرط أن يكون هذا الصيام لله تعالى مريدًا به وجهه عز وجل، جاء عن أبي هريرة قال: قال : ((يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به)).
وفي تأويل هذا الكلام للعلماء فيه أقوال، مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، ولعل أقواها أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره عمومًا، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه: "قد علمنا أن أعمال البر كلها لله، وهو الذي يجزي بها، فنرى أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب". وهذا يظهر من خلال قوله : ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)).
قال الحافظ: "قد يفهم من هذا الحصر التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاص به، حتى لو كان ترك المذكورات لعرض آخر كالتخمة لا يحصل للصائم الفضل المذكور"، ثم قال: "وقد يدخل الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فدخول الرياء يكون بالقول، أما بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد الفعل".
وقد قال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) أي: صام إيمانًا بأن الله فرضه وأوجبه عليه، واحتسابًا أي: طلبًا لوجه الله وثوابه ونفسه راغبة في ثوابه، طيبة غير كارهة ولا مستثقلة لصيامه، وفي هذا يخرج من يصوم وهو كاره مستثقل لرمضان، أو من يصوم فقط لأن الناس يصومون لكن دون إيمانه بأن الله أوجبه، من جهة العادة فقط.
والمراد بقوله: ((وأنا أجزي به)) أي: أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد أطلع عليه بعض الناس، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه والإمام مالك في موطئه عن أبي هريرة قال: قال : ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله تعالى، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) أي: أجازي عليه جزاء كثيرًا من غير تعيين أو تحديد لمقداره، كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فقد تبين ـ عباد الله ـ أن الله يجازي الصائم الأجر الكثير والكبير، ويكفر له بالصيام الذنوب والخطايا، فعن حذيفة قال: قال عمر: من يحفظ حديثًا عن النبي في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا سمعته يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)).
قال : ((وغلقت أبواب النار))، بل إن في الجنة بابًا لا يدخله إلا الصائمون، فعن سهل قال: قال : ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد))، وفي رواية: ((من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا)).
الخطبة الثانية
ثم قال : ((وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر)) أي: يا طالب العمل والثواب والخير والأجر أقبل إلى الله وطاعته بزيادة الاجتهاد في عبادته، وهو أمر من الإقبال أي: تعال، فإن هذا أوانك، وهذه فرصتك لقبول التوبة، فما أفلح وما ربح من سهلت وتيسّرت له سبل الخير والمغفرة والطاعة فما اغتنمها، خسر وخاب وهلك من خرج من رمضان ولم يغتنمه، عن أبي هريرة قال: صعد النبي المنبر فقال: ((آمين))، فقيل له: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين؟! فقال : ((إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)).
فلنحذر ـ جميعًا ـ من التهاون في هذا الشهر، فكم من صاحب وأخ وقريب وجار لنا صام معنا العام الماضي وهو الآن تحت التراب، ويتمنى لو أن الله يردّ له روحه، من أجل ماذا؟ أمن أجل أن يطمئن على أهله وماله؟ كلا والله، بل كما جاء في الحديث أنه قال: ((ركعتين لهذا ـ أي: الميت ـ خير من الدنيا وما فيها))، يتمنى لو ترد إليه الروح فيركع ركعتين فقط، لأنه في دار الجزاء في دار الحساب.
((يا باغي الخير أقبل))، وفي رواية: ((يا باغي الخير هلم)). في مثل هذا الشهر تتجلى تلك المعاني العظيمة ال+ية، ألا وهي الترابط والتآزر بين المسلمين وخاصة إطعام الطعام، وقد بينا فيما مضى ما له من الفضائل، قال : ((اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا ـ أو ستارًا ـ ولو بشق تمرة))؛ لأن الصيام ـ عباد الله ـ يذكرنا بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ولذلك جاء عن زيد بن خالد قال: قال : ((من فطر صائمًا كان له مثل أجره)).
فانظر ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الأجر العظيم الذي يكتبه الله للصائم، فإنه يكتب لك مثل هذا الأجر. فيتذكر المسلم ويتفقد وينظر في أقاربه وفي جيرانه وفي إخوانه، فإنه حتمًا سيجد المحتاج والمسكين والفقير والمدين، بل ينبغي للمسلم أن لا يتشبه بالبخيل والشحيح فينتظر أن يقال له: أعطني أو أكرمني، بل هو يتفقد الناس كما كان خير خلق الله أجمعين النبي الكريم والصحابة الكرام، يتفقدون أحوال المسلمين فينفعونهم، وفي هذا تتجلى تلك المعاني العظيمة، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، ((من استطاع منكم أن ينفع فليفعل)).
((ولله عتقاء من النار))، يعتق الله برحمته وفضله وإحسانه وكرمه في كل ليلة من هذا الشهر العظيم عبادًا من النار، كتبوا في أهل النار والشقاء، فيعتقهم ويجعلهم من أهل الجنة، وهذا يزيدنا إيمانًا وقوة للعبادة في هذا الشهر.
((ولله عتقاء من النار))، ولكن ينبغي العلم بأن هذا مشروط بأن لا يتخلل الصيام ما يفسده من الغيبة والكلام الفاحش وغير ذلك مما نهانا عنه المولى، عن أبي هريرة قال: قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). والمراد بقوله: ((قول الزور)) الكذب، قال ابن العربي المالكي: "مقتضى ما ذكر أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، وأن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور، وما ذكر معنى الجهل والغيبة وغيرهم".
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال : ((الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)).
ولذلك فليحذر المسلم من أن يتعب نفسه ثم لا يجد من الأجر شيئًا، عن أبي هريرة قال: قال : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)).
فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والكيس الفطن من يعمل العمل ويأمل بذلك ثواب الله، فكما أن العامل يكدح ويعمل وهو يتقن عمله حتى ينال أجرته فكذلك المسلم لا يفسد عمله حتى يلقى الله وهو عليه راض، جاء أن عمر رأى ذات يوم راهبا فبكى، فقيل له عن ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3، 4].
فطوبى لمن بادر عمره القصير فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وأعرض النصير، كان الحسن يقول: "عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون"، وكان أبو بكر بن عياش يقول: "لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي، وهو يذهب عمره ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات".
فيا عبد الله، هلال الهدى لا يظهر في غيم الشبع، ولكن يبدو في صحو الجوع وترك الطمع، واحذر أن تميل إلى حب الدنيا فتقع، ولا تكن ممن قال: سمعت وما سمع، ولا ممن سوّف يومه بغده فمات ولا رجع، كلا ليندمن على تفريطه وما صنع، وليسألن عن تقصيره في عمله وما ضيع، فيا لها من حسرة وندامة، وغصة تجرع عند قراءة كتابه وما رأى فيه وما جمع، فبكى بكاء شديدًا فما نفع، وبقي حزونًا لما رأى نور المؤمن يسعى بين يديه وقد سمع، فلا ينفعه الحزن ولا الزفير ولا البكاء ولا الجزع.
| |
|