molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الحث على الرحمة - داود بن أحمد العلواني السبت 5 نوفمبر - 8:49:06 | |
|
الحث على الرحمة
داود بن أحمد العلواني
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شملت رحمته كلّ الوجود، أحمده سبحانه وتعالى الراحم من عباده الرحماء الرحيم الغفور الودود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أ+ى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدرًا، أرسله الله رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد أمر الإسلام بالتراحم وحثّ عليه وأرشد المسلمين إلى التراحم وجعله من دلائل الإيمان، ونهانا عن القسوة في أخلاقنا واعتبرها دليل فساد فطرة الإنسان، ولا عجب في ذلك فالرحمة صفة المولى تباركت أسماؤه وصفاته كما قال الله عز وجل: وَقُل رَّبّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ [المؤمنون:118].
وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، فقال الله جل شأنه: أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وقال الله تبارك وتعالى عن عباده المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ [المائدة:54]. اللهم ارزقنا هذه الصفة، إنك على كل شيء قدير.
والإسلام ـ عباد الله ـ هو رسالة خير وسلام وعطف على جميع البشر، فقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107]، ولذلك كان افتتاح سور القرآن الكريم كلها إلا سورة التوبة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، والرحمة صفة من صفات الحقّ تبارك وتعالى.
ولما أراد الله أن يمتنَّ على العالم برسالةِ الإسلام اختار لها محمدًا عليه الصلاة والسلام، وسكب في قلبه وخلق صفة المودة والرأفة والحلم والرحمة والرفق، فقال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فصلوات الله وسلامه عليه.
فغِلظة القلب وقسوته خصلة مذمومة تدلّ على فساد من اتَّصف بها، ولذلك اعتبرها الإسلام عِلّة الفسق عن أمر الله تعالى وسرّ الشرود عن صراطه المستقيم، فقال الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ [الحديد:16]، نعوذ بالله من قسوة القلوب، اللّهمّ آمين.
وقد جاءت الأحاديث النّبويّة الشريفة حاثّة على التراحم الشامل فقال رسول الله : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله))[1]، فمن لا يرحم الناس ترتفع عنه رحمة الله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ثم قال: ((من لا يرحم لا يرحم، أوَأملك لك أن كان الله نزع من قلبك الرحمة؟!))[2].
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الرحمة الحقّة قد تأخذ طابع القسوة أحيانًا، وهي ليست كذلك، فالأطفال عندما يساقون إلى المدارس كرهًا ويُحفَّظون الدروس زجرًا، ولو تركوا وأهواءَهم لقتلهم اللهو واللعب، وعندما يؤدبون على الخطيئة أو ينهوا من قبل آبائهم وأمهاتهم عما تميل إليه نفوسهم وفيه ضرر عليهم إنما هو رحمة من الوالدين، وكذلك الطبيب عندما يجري جراحة بالجسم فيمزق اللحم، وقد يضطر لتهشيم العظام أو بترها، وما يفعل ذلك إلا رحمة بالمريض، فليست الرحمة حنانًا لا عقل فيه، أو شفقة تتنكّر للعدل والنظام، وإنما هي عاطفة ترعى الحقوق جميعها، فمنظر الإنسان وهو يقتصّ منه قد يستدرّ العطف، ولو أجيبت هذه العاطفة السريعة وأطلق سراح القاتل لامتلأت الأرض فوضى وفسادًا، ولذا قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلألْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، والمسلم يسرّ ويفرح عند سماعه إقامة الحدود.
أما الرحمة المطلوبة فهي ذلك الأثر من الجمال الإلهي الباقي في طبائع الناس الذي يسوقهم لفعل كل بر ومحاربة كل شر وقطيعة وفساد، قال رسول الله : ((جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه))[3]، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض))[4].
فالرحمة ـ عباد الله ـ شاملة، لكن ذئاب البشر أبوا إلا انتهاكها واستبعادها واعتراضها ووضع العوائق في طريقها، ولذلك لم يكن بدّ من إزالة هذه العوائق والإغلاظ عليهم، وهذا لا يتنافي وشمول الرحمة، ولا يدلّ على أن الرحمة فيها قصور، وإنما القصور فيمن حرم نفسه منها، ولذلك نرى أن رحمة الله وسعت كل شيء، ومع ذلك فلن ينالها مشرك أو جحود ملحد وكافر مجرم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا يُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلامّىَّ [الأعراف:156، 157].
ومثل هذا ما قاله الرسول الكريم عليه والصلاة والسلام: ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى))، فقالوا: ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))[5].
اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك، وجنبنا معصيتك ومعصية رسولك صلى الله عليه وآله وسلم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/77)، ومسلم في الفضائل، باب: رحمته بالصبيان والعيال (2319).
[2] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله (7/74)، ومسلم في الفضائل، باب: رحمته بالصبيان والعيال (2318).
[3] رواه البخاري في الأدب، باب: جعل الله الرحمة في مائة جزء (7/75)، ومسلم في التوبة، باب: سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2753).
[4] رواه مسلم في التوبة، باب: سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2753).
[5] أخرجه البخاري في الاعتصام، باب: الاقتداء بسنة رسول الله (8/139).
الخطبة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، إن من الرحمة المطلوبة الرفق بالحيوان، وقد شدد الإسلام المؤاخذة على من تقسو قلوبهم على الحيوان ويستهينون بآلامه، وبين لنا أن الإنسان على عظم قدره وتكريمه على كثير من الخلق فإنه يدخل النار في إساءة يرتكبها مع الحيوان، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((دخلت امرأة النار في هرة؛ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))[1]، أعاذنا الله من النار.
كما بين الإسلام العظيم أن كبائر المعاصي تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب ولو بإزاء كلب، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له))، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: ((في كلّ كبِد رطبة أجر))، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حارّ يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها[2]، فسقته إياه، فغفر لها به))[3]. اللهم وفقنا لعمل الخير واغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين.
فيا عباد الله، إذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا فما بالكم ماذا تصنع الرحمة ببني الإنسان؟! إنها تصنع العجائب، وإن الصدقة لتطفئ غضب الرب جل وعلا، وإن الصدقة على القريب صلة وصدقة، وإن الله عز وجل يحب من عباده المؤمنين المتقين الرحماء، فالمسلم مأمور بأن يلقى المسلمين قاطبة وفي قلبه الرحمة والشفقة عليهم، فينصح لهم ويحث نفسه ويحثهم على فعل الخير والتراحم والتنافس في ذلك وبصفة خاصة، فيكون فيه الرحمة على والديه في مقدمة عامة الناس، كما قال الله تبارك وتعالى: وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]، فلا يرفع طرفه في والديه، ولا يتبرم في وجهيهما، ولا يزدري أعمالهما فضلاً عن أن يستنقص من قدرهما عياذًا بالله تعالى، ثم أقاربه، ومن ضمن من يرحمهم الزوجات واللاتي قال الله تعالى عنهن: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]، فليرفق بهن، وليعاشرهن بالمعروف، وليتودد إليهن، ولا يقبّح، ولا يضرب في الوجه، خاصّة عندما يرتكبن معصية كخروج من البيوت بغير إذن أو تهاونٍ في صلاة أو عدم مثولها في الفراش، ففي ذلك يجب عليه تأديبهن والأخذ على أيديهن وضربهن ضربًا غير مبرّح كما قال الله تعالى: وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34]، ولا يحقّ لوالِدِها أو أقارِبها معارَضة الزّوج، فيتوسّع الخلاف وتكون النهاية المؤلمة، عياذًا بالله تعالى من كلّ سوء، اللهم آمين.
وفقني الله وإياكم وجميع المسلمين للعمل بكتاب الله وسنة رسوله ، ونسأله تعالى أن لا يحرمنا من الرحمة والرفق، فإن من يحرم الرفق يحرم الخير كله، وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] رواه البخاري في الشرب، باب: فضل سقي الماء (3/77)، ومسلم في البر، باب: تحريم تعذيب الهرة (2232).
[2] الموق أي: الخف.
[3] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/77)، ومسلم في السلام، باب: فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244).
| |
|