molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الإخلاص في العمل - داود بن أحمد العلواني السبت 5 نوفمبر - 6:35:23 | |
|
الإخلاص في العمل
داود بن أحمد العلواني
الخطبة الأولى
أمّا بعد: أيّها النّاس، اتّقوا الله، واشكروه على ما منّ به عليكم من نعمة الإسلام، وأخلصوا العبادة لله وحده، واعلموا أنّ قيمة العمل عند الله ترجع قبل كلّ شيءٍ إلى طبيعة البواعث الّتي تمخّضت عنها، فالصدقة مثلاً لا يعتدّ بها في الإسلام إلا إذا خلصت من شوائب النّفس ورذيلة الرّياء وتنزّهت عن السّمعة، فإذا تمخّضت من الشّوائب وكانت خالصةً لله وحده على وصف الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:9]، وكما قال تعالى: ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ [الليل:18-21] قبِلت.
ومن أجل تصحيح اتّجاهات القلب وضمان تجرّده من الأهواء قال رسول الله : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيِّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيْبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه))[1].
إنّ صلاح النّيّة ـ عباد الله ـ وإخلاص الفؤاد لربّ العالمين ليرتفعان بالعمل الدّنيويّ البحت ليجعلاه عبادةً محضةً، كما أنّ خبث الطّويّة يهبط بالطّاعات المحضة ليقلبها إلى معاصي لا ينال المرء منها ثوابًا بعد التعب في أدائها، فنسأل الله السلامة والعافية.
فالرّجل يواقع امرأته ويقضي منها وطره ويحقّق شهوته، فإذا صاحب ذلك نيّةٌ صالحةٌ وهدفٌ نبيلٌ كحفظ عفافه وصيانة دينه وغضّ بصره تحوّلت تلك اللّذّات إلى قرباتٍ ينال بها الأجر والثّواب، حتّى ما ينفقه على نفسه أو على أولاده وزوجته له مثوبته ما دامت نيّة الخير والصّلاح ملازمةً له، فعن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه أنّ رسول الله قال له: ((إِنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُهُ فِي فَمِ امْرَأَتِك))[2].
فيا عباد الله، اتّقوا الله، واعلموا أنّ المرء ما دام قد أسلم للهِ وجهه وأخلص لله نيّته فإنّ حركاته وسكناته وتصرّفاته الحسنة تحتسب في القربات الّتي تحقّق له مرضاة الله. وقد يعجز الإنسان عن عمل الخير الّذي يصبو إليه لقلّة ماله أو لضعف صحّته، ولكنّ الله تعالى المطّلع على خبايا النّفوس يرفع درجة الحريص على الخير إلى مراتب المصلحين، والرّاغب في الجهاد إلى مراتب المجاهدين؛ لأنّ نيّتهم الصّالحة وطموح همّتهم أرجح عند الله من عجز وسائلهم، ومن أجل ذلك قال رسول الله في الّذين رغبوا في قتال الكفّار معه والجود بأنفسهم في سبيل الله في غزوة العسرة، ولم يستطع رسول الله تجنيدهم، فرجعوا وفي قلوبهم غصّةٌ، فقال عليه الصّلاة والسّلام للجيش السّائر معه: ((إِنَّ أَقْوَامًا خَلْفَنَا بِالْمَدِينَةِ، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ العُذْر))[3]، وفيهم نزل قول الله عزّ وجلّ: وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].
فيا أيّها النّاس، تأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف أنّ النّيّة الصادقة الصالحة الخالصة سجلت لهؤلاء الناس ثواب المجاهدين على الرغم من قعودهم راغمين حبَسَهم العذر.
فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا بأنّه ليس ظاهر الإنسان ولا ظاهر الحياة الدنيا هو الذي يحقّق رضوان الله تعالى، وإنما رضوان الله يضفيه الله لعباده المخلصين، ويتقبّل منهم ما يتقرّبون به إليه، أمّا ما عدا ذلك من زخارف الدّنيا وتكلّفات البشر فلا قيمة له عند الله، قال رسول الله : ((إنَّ اللهَ لا ينظُرُ إلى أجسامِكم ولا إلى صُوَرِكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِِكم وأعمالِِكم))[4]، وهذا مِصداقُ قَولِه تَعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيّمَةِ [البينة:5]، فالله جلّ شأنه يحبّ العمل النقيّ من الشّوائب كما قال: أَلاَ للهِ الدينُ الخالِصُ [الزمر:3].
أعوذ بالله من الشّيطان الرَّجيم، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هُوَ الغفورُ الرحيم.
[1] رواه البخاري في الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى (1/19)، ومسلم في الإمارة، باب: قوله إنما الأعمال بالنية (1907).
[2] جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة وأن لكل امرئ ما نوى (1/19)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628).
[3] رواه البخاري في الجهاد، باب: من حبسه العذر عن الغزو (3/213).
[4] رواه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس (2563).
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العالمين، أمر أن لا تعبدوا إلا إيّاه، ذلك الدين القيم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالدّعوة إلى توحيده والتحذير من الشّرك معه، فجاهد في الله حقّ جهاده، وبلّغ رسالة ربّه، وأدّى الأمانة حتّى أتاه اليقين وأكمل الله به الدين، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم وسار على نهجهم إلى يوم الدّين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ: فيا عباد الله، لقد صحَّ منْ حديثِ أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه أنّه سمع رسولَ اللهِ يقولُ: ((إنَّ أولَ الناسِ يُقضَى يومَ القيامةِ عليهِ رجلٌ اسْتُشْهِدَ فأُتِيَ به، فعرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، فقالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ فقدْ قِيل، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ القُرْآنَ فَأُتِيَ بِه، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَال: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه وقَرَأتُ فيك القرآنَ، قالَ كذَبتَ ولكنَّك تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ ليُقَالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرآنَ ليُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فقدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِه فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ فِي النَّار. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاهُ مِنْ أصْنافِ المَالِ كلِّهِ، فأُتِيَ بِه فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيها إلاَّ أَنْفَقْتُ فِيها لَك، قال: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَال: هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ))[1].
وهكذا يا عباد الله، فإنّ انعدام الإخلاص وفساد النّيّة قد أحال الأعمال الصالحة إلى معاصٍ استوجبت لأصحابِها النَّارَ، كما جاءَ في هذا الحديثِ، وهذا مصداقُ قولِه تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ [الماعون:4-7]. فالصلاةُ ـ أيها الناسُ ـ معَ الرياء قد أمست جريمةً عندما فقدت عنصرَ الإخلاص، وكذلك الجهاد والصدقة والعلم.
فاحذروا الرياء عباد الله، فإنّه من أفتك العلل بالأعمال، ولهذا أعلن الإسلام كراهيته الشديدة للرياء في الأعمال الصالحة، واعتبرَهُ شِركًا باللهِ ربَّ العالمينَ.
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا أقوالكم وأعمالكم لله، وابتعدوا كلَّ البعد عن الرياء والسّمعة لتفوزوا برضا اللهِ جلَّ وَعَلا.
[1] رواه مسلم في الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905).
| |
|