molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: سورة الحجرات (1)- خالد بن محمد بابطين السبت 5 نوفمبر - 5:51:53 | |
|
سورة الحجرات (1)
خالد بن محمد بابطين
الخطبة الأولى
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وبهذين الأصلين اهتدت الأمّة قديمًا، وهما سبيل النجاة في سائر الأزمان والأحوال، من تمسك بهما رشد واستقام، ومن ضل عنهما غوى وهوى، وإنه ليزداد يقيننا ـ معشر المؤمنين ـ يومًا بعد يوم أنه لا خلاصَ لهذه الأمة من هذا الواقع الذي تعيشه والبؤس الذي تحياه لتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس إلا بأن ترجع إلى القرآن الكريم الذي هو سبيل نجاتها وحبل خلاصها وهاديها من حيرتها وموقظها من رقدتها ومنقذها من هلكتها، به تحيا، وفي ضوئه تسير، وعلى منهاجه تموت، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وانسجامًا مع هذه القناعة وتفاعلاً مع هذا اليقين فقد رأيت أن نقف مع سورة عظيمة من كتاب الله عز وجل نتأمل آياتها، نتأدب بآدابها ونتّعظ بعظاتها.
تلكم السورة ـ أيّها الإخوة ـ هي سورة الحجرات، فهي مدرسة متكامِلة تربّى في ضوئها أصحاب محمّد ، فإنها مع قصرها وقلّة عدد آياتها جاءت شاملة لأحكامٍ وآداب وأوامرَ ونواهٍ لا تجدها مجتمعة في سورة سواها.
سورة الحجرات مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم.
إنها مدرسة عقدية وتشريعية وتربوية، فلا عجَب حينئذٍ أن نرى أخلاقَ الجيل الأول هي أخلاق القرآن التي هي أخلاق رسول الله ، ولذلك قادوا الدنيا بأسرها لا بسيوفهم ولا بأموالهم ولكن بأخلاقهم المستمَدَّة من دينهم ومُثُلهم المأخوذة من كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وأمتنا اليومَ أحوج ما تكون إلى منقِذ لها مما هي فيه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما صلح أولها إلا بالكتاب والسنة، ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي)). ولذلك جاءت هذه السورة تعالج قضايا وأمورًا مهمّة تسهم في حلّ كثير من المعضلات المعاصرة.
أيها الإخوة، هذه السورة ذات الآيات الثمانية عشرة تضع معالم كامِلة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، عالمٍ يصدر عن الله ويتّجه إلى الله، عالم نقيّ القلب نظيف المشاعر عفّ اللسان، وقبل ذلك عفّ السريرة، عالم له أدب مع الله وأدبٌ مع رسوله وأدب مع نفسه وأدب مع غيره، أدَب في هواجس ضميره وفي حركات جوارحه.
أيها الإخوة، يقول عبد الله بن مسعود : (إذا سمعتَ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فإنما هو أمر تأمَر به، أو نهي تُنهَى عنه، أو خبر تخبَر به).
وفي ثنايا هذه السورة المباركة جاءت ستة نداءات: خمسة منها جاء المنادَى فيها موصوفًا بوصف الإيمان، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم.
أول هذه النداءات هو قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
ثانيها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
أما النداء الثالث فهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
رابع هذه النداءات قوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
والنداء الخامس في هذه السورة هو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].
أما آخر نداء ورد في السورة فهو النداء السادس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
أيها الإخوة، هذه النداءات المتكرِّرة لم تسَق عبثًا في هذه السورة على هذا النسق المتوالي، ولكن جاءت لحِكَم عظيمة وفوائد جليلة، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لتدبّرها وتعقّل معانيها والعمل بمقتضاها، وسيكون حديثنا هذا اليوم عن النداء الأول منها وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في معنى الآية: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة)، وقال مجاهد: "لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه"، وقال الضحاك: "لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم".
فهذا أدب نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها.
وحين نتأمل حال الصحابة الذين شهدوا التنزيلَ نرى كيف كان أدبهم في هذا الأمر مع الله ورسوله، جاء في حديث أبي بكرَة نفيع بن الحارث الثقفي أنّ النبي سأل في حجة الوداع: ((أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنّه سيسميه بغير اسمه فقال ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا بلى، قال: ((أيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس البلدة الحرام؟)) قلنا بلى، قال: ((فأيّ يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى... الحديث.
فهذه صورة من الأدب ومن التحرّج ومن التقوَى التي انتهى المسلمون إليها بعد سماعهم ذلك النداء وذلك التوجيه وتلك الإشارة إلى التقوى للسميع العليم.
وهذا مقتضى العبودية لله تعالى، فلا يُقَدِّمَ هوَى نفسه أو غيره على أمر الله تعالى وحكمه، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ولقد كان الصحابة أعظمَ من غيرهم انتفاعًا بالدليل والوحي وتسليمًا له لنزاهة قلوبهم وخلوِّها من كلِّ ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص واستعدادِها التامِ لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعانِ والانقياد له انقيادًا دون حرج ولا تردّد ولا إحجام.
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه:يا ابن أخي، لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذِن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزل ولا تحكم بيننا بالعَدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقعَ به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، قال: والله، ما جاوزَها عمر حين تلاها وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إن الاستجابة الكاملة للوحي تعني عدم التقديم بين يديه وعدمَ جعل نصوص الوحيين وأحكامهما مجالاً للنّقاش والحوار والأخذ والردّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].
أيها الإخوة، إننا نعيش واقعًا يَعُجُّ بالفِتن والرزايا، ومن أعظم ذلك ما نراه من السعيِّ الحثيث والدّؤوب لتغيير المسلَّمات والمقرَّرات عند المسلمين وجعلها مجالاً للنقاش والحوار، ومن ثَمَّ القبول أو الردّ واستهدافِ مكانة النص الشرعي وقدسيته؛ كي لا يبقى لدَى المسلم ثوابتُ ولا أصولُ يرتكز عليها ويفيء إليها عند الفتن والمدلهمات والأمور المشتبهات، والهدف من وراء ذلك كلّه أن ينسلخ المسلم من دينه ولا يبقى لديه من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه.
فهذه صورة من صور التقديم بين يدي الله ورسوله، وثمة صورة أخرى وهي جعل العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية أو الدّولية أساسًا يرجَع إليه دون الكتاب والسنة.
وصورة ثالثة لهذا الأمر ألا وهي القول على الله بلا علم والتصدّر للإفتاء والتحليل والتحريم بل والتفسيق والتبديع والتكفير من أحداثٍ أغرار جهّال، وذلكم من أعظم الآثام وأكبر المحرمات، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
أخيرًا أيها الإخوة، من يردُّ الأحاديث الصحيحة بل المتواترة أحيانًا بحجّة مخالفتها للعقل هذا من أعظم المقدِّمين بين يدي الله ورسوله، وفي الحقيقة لو كان عقله سليمًا لما وجد تعارضًا بينه وبين النصّ الشرعي؛ لأنهما صادران عن الله، فلا يمكن أن يعارض صحيح المنقول صريح المعقول.
| |
|