molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: سورة الحجرات (2)- خالد بن محمد بابطين السبت 5 نوفمبر - 5:50:06 | |
|
سورة الحجرات (2)
خالد بن محمد بابطين
الخطبة الأولى
أيها الإخوة المؤمنون، في هذا اليوم نتأمل النداء الإلهي الثاني في سورة الحجرات، وهو قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر وعمر ، فقد روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر؛ رفعا أصواتهما عند النبي حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي، فقال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية [الحجرات:2]، قال ابن ال+ير : فما كان عمر يُسمع رسول الله بعد هذه الآية حتى يستفهمه مما يخفض. وعن طارق بن شهاب عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قلت: يا رسول، والله لا أكلّمك إلا كأخي السِّرار.
أيها الإخوة، هكذا كانت استجابة الخيِّرين لهذه الآية، وهكذا دأب الصحابة في أدبهم مع رسول الله ، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكِّسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره أنه قال: كذا وكذا، فقال موسى بن أنس بن مالك: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: ((اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة))، قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فهنيئًا له ثم هنيئًا له.
قال ابن كثير رحمه الله: "قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيًا وفي قبره ، وقد روِّينا عن عمر بن الخطاب أنه سمع صوتَ رجلين في مسجد النبيّ قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟! ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا". ولهذا فإنه ينبغي على الإنسان أن يتأدب مع سنّته وحديثه حين يسمعه أو يقرأه أو يكتبه.
ولله در مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، فلم يكن يحدّث بحديث رسول الله إلا اغتسل وتبخر وتطيّب وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة، ثم يقول: أحبّ أن أعظِّم حديث رسول الله ولا أحدث به إلا على طهارة متمكّنًا، وإذا رفع أحد صوته عنده قال: اغضض من صوتك فإن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فمن رفع صوته عند رسول الله فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله ، وقال: حرمته حيًّا ومَيْتًا سواء. ولذلك فما أعظم إثم من يعارض سنّته بعَقله ورأيه، وما أسوأ أدب من يناوئ الذّابين عنها وينتقصها ويهزئ بها وبأهلها كما نسمَع ونقرأ ونشاهد.
أيها الإخوة، لقد أعلى الله تعالى شأنَ العلماء وأبان منزلتهم فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، فبدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وثلث بأهل العلم، وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً، وفي البخاري من حديث معاوية أن النبي قال: ((من يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين))، وروى أبو الدرداء عن النبي أنه قال: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر))، وقال ابن عمر : (مجلس فقه خير من عبادةِ ستين سنة)، وقال الحسن البصري رحمه الله: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار"، وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: "العلماء في الأرض مثلُ النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيّروا"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "عالم معلّم يدعَى كبيرًا في ملكوت السماء"، وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: "من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء".
أيها الإخوة، من خِلال هذه النصوص الكريمة السابقة وهذه الأقوال المحفوظة يتبيّن لنا المكانة العظيمة والدّرجة العالية التي يتمتّع بها علماء الأمة، ومن ثم وجب علينا أن نوفّيَهم حقّهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]، وقال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، والشعيرة كما قال القرطبي: كل شيءٍ لله فيه أمر أشعَر به وأعلم. وعلى ذلك فالعلماء لا شكّ أنهم من شعائر الله، غير أننا ـ أيها الإخوة ـ قد ابتلِينا في هذا الزمن بمن يلمِز العلماء ويغمِزهم، بل يصرّح بتنقّصهم وذمّهم ويتتبّع مثالِبَهم وعثراتهم ويتهمهم بالسذاجة والغفلة، ناهيك عمّن يصمهم بالمداهنة والعمالة أو بأنهم منابِت التطرّف والإرهاب وأن كتبهم ومناهجهم في الدعوة والتعليم هي مصدر للتكفير والتطرف، وهؤلاء مرضى القلوب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، الذين ينالون من العلماء ويقعون فيهم في الصّحف وعلى شبكة الإنترنت وغيرها لم يدفعهم إلى ذلك إلا الغِيرة والحسد والهوى، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه"، وكان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه.
وثمة صنف من هؤلاء الواقعين في أعراض العلماء والآكلين من لحومهم دفَعهم إلى ذلك التعالم وادِّعاء الفهم في الشريعة حتى أصبحتَ ترى أحداثًا أغرارًا لم يبلغوا من العلم الشرعي ما يؤهّلهم للتصدر والإفتاء ولم تحنّكهم التجارب ولا الأيام يخوضون في مسائل وأمور لو عرِضَت على عمر لجمع لها أهل بدر، فالله المستعان على ما يصفون.
أيّها الإخوة المؤمنون، وإنّ من أعظم أسباب النيل من العلماء والثّلب فيهم النفاقَ وكره الحقّ، وصدق الله حين وصف المنافقين بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13]، وبقوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، فهؤلاء المنافقون من العلمانيين والحداثيين وأمثالهم هم من أكثر الواقعين في أعراض العلماء لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله.
وهؤلاء ـ أيها الإخوة ـ لا يستهدفون العلماء لذواتهم فحسب، بل إنهم يهدفون من وراء ذلك إلى جعل الناس يردّون ما يحمله ذلك العالم من الحقّ كحال المشركين مع الرسول سواء بسواء، فقريش لم تطعن في الإسلام أولاً، بل طعنوا في شخص رسول الله ؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنهم إن استطاعوا تشويهَ صورته في أذهان الناس فلن يقبلوا ما يقوله من الحقّ، ولذلك فجرح العالم هو جرح للعلم الذي معه وهو إرث محمد ، وبالتالي فهو طعن في الإسلام من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون، قال عبد الله بن عباس : (من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا)، والله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:57، 58]. إن هؤلاء العلماء من أولياء الله، وفي الحديث القدسي: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله: "إن لم يكن الفقهاء أولياءَ الله فليس لله ولي".
أيها الإخوة، ينبغي علينا تجاه علمائنا عدة أمور:
أولها: أن نحفظ لهم مكانتهم وفاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدّب معهم.
ثانيًا: أن نعلمَ أنه لا معصومَ إلا من عصمه الله، وعلى هذا فيجب علينا أن ندركَ أن العالم معرّض للخطأ فنعذره حين يجتهد فيخطئ، ولا نذهبُ نتلمّس أخطاءهم ونحصيها عليهم. قال سفيان الثوري: "ليس يكاد يثبت من الغلط أحد".
الأمر الثالث: أن ندرك أنّ الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة، فيجب أن تتّسع صدورنا له، فكل عالم له فهمه واطلاعه على الأدلة، ولكل منهم نظرته في ملابسات الأمور، فمن الطبيعي أن يختلفوا.
رابعًا: أن نحمِل أقوالهم على أحسن المحامل، وأن لا نسيء الظن فيهم وإن لم نأخذ بأقوالهم، فنحن لسنا ملزَمين بالأخذ بكل أقوال العالم إذا خالف الدليل باجتهاد منه، لكن ثمة فرق كبير بين عدم الأخذ بقول عالم وبين الجرح فيه واستباحة عرضه.
خامسها: أن ننشغل بعيوبنا وأخطائنا عن عيوب الناس وأخطائهم وخصوصًا العلماء.
اقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله سابغ النعم والخيرات، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله التوفيق للباقيات الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لأهل العلم قدرَهم وشأنهم، وأنزلوهم منزلتهم التي أنزلهم الله. والعلماء لا شك أنهم بشر من البشر يقع لهم الخطأ كما يقع لغيرهم، فلا يفهم مما سبق أنهم لا يخطئون، ولكن ثمة سبيل يمكن من خلالها بيان الحق وتوضيحه دون الوقوع في العلماء وذلك من خلال الأمور التالية:
أولاً: التثبّت من صحّة ما ينسب إلى العالم، فقد يشاع عن العلماء أقوال لأغراض لا تخفى، فيجب التأكّد مما ينقل عن العلماء، فقد يكون غير صحيح.
الثاني: سؤاله أو سؤال غيره من أهل العلم عن وجه استدلاله على قوله، فقد يكون قوله صوابًا ولكنه يخفى على بعض الناس.
وكم عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم
الثالث: إن ثبت خطؤه فيما قال فينبغي الإنصاف والعدل، فيثنى على العالم بما هو أهله، ويبيَّن الخطأ الذي وقع فيه دون التجاوز في تتبّع عثراته واسقصاءِ أخطائه والاستطالة في عرضه، ويقوم بذلك أهل العلم لا أن يتصدى له أنصاف المتعلمين وأرباعهم فضلاً عن عوام الناس وجهالهم.
الأمر الرابع والأخير: أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين: خطأ في الفروع، وخطأ في الأصول، فمسائل الفروع مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف، فإذا أخطأ فيها العالم فإنه يبيّن خطؤه دون التعرض لشخصه، وأما مسائل الأصول في العقيدة فإنه يبيَّن فيها القول الصحيح ويحذَّر من أهل البدع في الجملة وينبَّه إلى خطورة الداعي إلى بدعتِه دون إفراط ولا تفريط.
اللّهمّ احفظ علماءنا، واحفظ الأمة بحفظهم. اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين...
| |
|