molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: ثلاث منجيات - خالد بن محمد بابطين الجمعة 4 نوفمبر - 10:12:31 | |
|
ثلاث منجيات
خالد بن محمد بابطين
الخطبة الأولى
أيها الإخوة، كان لنا وقفات في الخطبة الماضية مع الثلاث المهلكات التي ورد ذكرها في حديث ابن عمر: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله تعالى في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء في السَبَرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)). وفي هذه الخطبة نستعين بالله في وقفات مع الثلاث المنجيات.
وأولها العدل في الغضب والرضا، وهو أمر عزيز جدًا في الناس، وذلك أن الغضب يحمل صاحبه على أن يقول غير الحق ويفعل غير العدل، فمن كان لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا دلّ ذلك على شدة إيمانه وأنه يملك نفسه، فهو الشديد حقًا، كما قال النبي : ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) متفق عليه. وقد حرص السلف على التخلق بهذا الخلق أيما حرص، يقول مورق العجلي: "ما تكلمت بشيء في الغضب ندمت عليه في الرضا"، وقال عطاء: "ما أبكى العلماء آخر العمر إلا غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله".
أيها الإخوة، لقد أمر الله تعالى بالعدل في القرآن في غير موضع، منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى الآية [النحل:90]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، وفي الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8]، وقال لنبيه : فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ [الشورى:15]، وقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].
والعدل مطلب شرعي في كل حين، ويعظم حين يكون في شأن المال والوصية به، ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول : ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيُختمُ له بشر عمله، فيدخلُ النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيُختمُ له بخير عمله، فيدخلُ الجنة))، قال أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13، 14].
وقد بين النبي عظيم جزاء أهل العدل والقسط فقال: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزَّ وجلَّ، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا)) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ، وفي سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسًا إمام جائر)).
ولعظم شأن العدل ومنزلته في الشرع كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، ولذلك أيضًا كان من الثلاثة الذين لا ترد دعوتهم الإمام العادل كما جاء في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة .
قال عمر بن الخطاب : (إن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والـهَين واللين، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر بابًا، ويسر لكل بابٍ مفتاحًا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد، والاعتبار وذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال والزهد من كل أحد قِبَلَهُ حقٌّ).
أيها الإخوة، وأما الخصلة الثانية من الأمور المنجية فهي القصد في الفقر والغنى، وهو أمر عزيز أيضًا، وهو حال النبي ، فقد كان مقتصدًا في حال فقره وغناه. والقصد هو التوسط، فإن كان فقيرًا لم يُقتِّر خوفًا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك في قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، وإن كان غنيًا لم يحمله غناه على السرف والطغيان، بل يكون مقتصدًا أيضًا، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
وذلك هو النهج الذي أراده الله لعباده المؤمنين، ولكنك حين تتأمل واقع كثير من الناس اليوم رجالاً ونساءً فإن عينك لن تخطئ مظاهر كثيرة من الخلل في الالتزام بهذا النهج الإسلامي، فثمة طائفة من الناس يعيشون في هذه الدنيا ليأكلوا، ويغدون ويروحون ولا هم لأحدهم إلا أن يجمع على مائدته ألوان الطعام، فيمعنون في التشبع والامتلاء، ويبتكرون في وسائل الطهي وضروب التلذذ، وفي الحديث: ((فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولُهم جوعًا يوم القيامة)) أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث صحيح. ومن المعروف طبيًا أن عددًا كبيرًا من الأمراض الشديدة والعلل المنهكة ينشأ عن اكتظاظ المعدة بما لا تطيق هضمه، وفي الحديث: ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه)) رواه أحمد وغيره.
ولذلك فملذات الطعام وحطام الدنيا أنزل قدرًا من أن يتفانى الناس فيها على هذا النحو الشائن في عصرنا، هذا وحدّث عما يفعله الناس في رمضان ولا حرج، وحين تنظر إلى آخرين فإنك تراهم يتنافسون في العناية الفائقة بأنواع اللباس، بل ويباهون بها ويختالون فيها، وهذا الداء موجود في الرجال والنساء وإن كان في النساء أظهر، غير أنه أصبح في هذا الزمن بعض الرجال يتفنن في هذا المجال حتى غلب بعضهم فيه النساء. وإنه لمن الحماقة حقًا أن يجعل الشاب من جسمه مَعْرض أزياء يسير بها بين الناس يرتقب نظرات الإعجاب تنهال عليه من هنا وهناك. وثمة فتيانٌ أغرارٌ يقضون الساعات الطوال في صوالين الحلاقة لاستكمال وجاهتهم والاطمئنان على أناقتهم، ولو أنهم كلفوا ببذل هذا الوقت في التزود من علم أو التفقه في دين لنفروا ونكصوا، وقد ندد الإسلام بهذا الطيش ونفر منه، قال : ((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة وألهب فيه نارًا)) رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح.
والحق أن المفتونين والمفتونات من الرجال والنساء لما قلت حظوظهم من آداب النفس ظنوا المغالاة في اللباس تستر نقصهم وهيهات، عن بريدة قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فأخرجت إلينا +اء ملبدًا ـ أي: مرقعًا ـ وإزارًا مما يصنع باليمن وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله في هذين الثوبين. رواه البخاري. وروى عن جابر قال: (حضرنا عرس علي وفاطمة، فما رأينا عرسًا كان أحسن منه، حَشَوْنَا الفراش ـ يعني من الليف ـ وأتينا بتمر و+يب فأكلنا، وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش.
أيها الإخوة، ولا يفهم من هذا أن الإسلام يدعو إلى الإزراء بالنفس في اللباس أو يرحب بالهيئات المستكرهة أو يندب إلى لبس المرقعات كما يفعله من قل نصيبه من الفقه، كلا، سأل رجل عبد الله بن عمر : ما ألبس من الثياب؟ فقال: (ما لا يزدريك فيه السفهاء ولا يعيبك فيه الحكماء)، وجاء رجل إلى رسول الله فرآه سيئ الهيئة فقال له: ((هل لك من شيء؟)) قال: نعم من كل المال قد آتاني الله، فقال : ((إذا كان لك مال فلير عليك)) رواه النسائي بسند صحيح.
فقد جاء الشرع كما رأيت باستحباب التجمل وحسن السمت، وفرق كبير بين إنسان يزخرف ظاهره ويهمل باطنه وينفق خير وقته في رياش يلصقها بجسمه، وآخر يجعل همه الأكبر في صيانة حقيقته واستكمال مروءته ثم لا ينسى في زحمة الواجبات ارتداء ما يجمل به ويلقى الناس فيه.
أيها الإخوة، إن التوسط لب الفضيلة، وهو أن تملك الحياة الدنيا لتسخرها في بلوغ المثل العليا، لا أن تملكك الحياة فتسخرك لدناياها، ولا أن تحرم من الحياة أصلاً فتقعد ملومًا محسورًا، وهذا ما عناه النبي بقوله: ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) رواه البخاري، وقال : ((السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة)) رواه الترمذي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: وأما الخصلة الثالثة المنجية فهي خشية الله في السر والعلانية، وهي أن يخشى العبد الله ظاهرًا وباطنًا، في الغيب والشهادة، وكثير من الناس يُرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكنّ الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس، وهؤلاء هم الذين امتدحهم الله بقوله: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:49]، وقوله تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33].
كان بعض السلف يقول: "زهدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه"، ومن هذا قول بعضهم: "ليس الخائف من بكى فعصر عينيه، إنما الخائف من ترك ما اشتَهى من الحرام إذا قدر عليه".
ولذا عظم ثواب من أطاع الله سرًا بينه وبينه ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سرًا، يقول تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، قال بعض السلف: "أخفوا لله العمل فأخفى لهم الجزاء"، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين)) متفق عليه، وفي حديث أبي أمامة قال رسول الله : ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله)).
وتأمل حاله في الخشية، في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها))، وقال عبد الله بن مسعود : (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا).
والخشية هي حقيقة العلم، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقال ابن مسعود : (ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية)، وقال أبو الدرداء : (إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت؟)، ووصف الحسن حال السلف فقال: "لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم"، وقال أيضًا: "عملوا بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن تردّ عليهم، إن المؤمن جمع إيمانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا".
| |
|