molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الموت - خالد بن محمد الشارخ الجمعة 4 نوفمبر - 9:43:56 | |
|
الموت
خالد بن محمد الشارخ
الخطبة الأولى
أما بعد: فجدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليساه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا للفوت، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حوم إلا حوله، ولا انتظار وتربص إلا له. وحقيقٌ بأن يعد نفسه من الموتى ويراها في أصحاب القبور؟
ففي سنن النسائي والترمذي وابن ماجه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) يعني الموت.
نعم ـ أيها الأخوة ـ هو هادم اللذات ومفرق الجماعات، هو الموت. نعم هو ما ذكر في قليل إلا كثره, ولا في كثير إلا قلله، ولا في غني إلا أفقره، ولا في فقير إلا أغناه.
الموت باب وكل الناس داخلـــه فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بـــما يرضي الإله وإن خالفت فالنـار
وخيرٌ منه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ [آل عمران:185].
وقال تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30].
وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ [الأنبياء:34].
أيها الأخوة, عجيب أمرنا إذا رحل أحدنا من بلد إلى آخر بذل كل جهده في الإعداد لتلك الرحلة حتى ولو كانت قصيرة.
وإذا نزل بإحدى المدن راح يبحث عن أكثر فنادقها توفيرًا لإقامة سعيدة وحياة هنيئة.
أليس كذلكم أيها الأخــوة؟!
لكننا لا نعطي اهتمامًا لتلك الرحلة الكبرى والإقامة الدائمة، والقضية الحاسمة التي يحكم فيها أحكم الحاكمين، فلا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه.
وكأننا في شك من الموت كما قال الحسن البصري رحمه الله: "ما وجدت يقينًا أشبه بالشك من الموت".
قال سلمان الفارسي:
* ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني:
1 – مؤمل الدنيا والموت يطلبـه.
2 – وغافل وليس يغفل عنــه.
3 – وضاحك ملء فيه, ولا يدري: أساخط رب العالمين عليه أم راضٍ؟!
* وثلاث أحزنتني حتى أبكتني:
1 – فراق الأحبة: محمداً و ح+ه.
2 – وهول المطلــع.
3 – والوقوف بين يدي الله, ولا أدري أإلى الجنة يؤمر بي أم إلى النار؟
أيها الإنسان, أحبب ما شئت فإنك مفارقه, وعش ما شئت فإنك ميت, واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
أيها المسلمون, إنها ساعة رهيبة ما خاف من عاقبتها أحد إلا ونجا، وما غفل عنها أحد إلا تحسر وندم.
إنها الساعة الحاسمة التي يتمنى الكثيرون ألا يذوقوا طعمها، ولا يشربوا كأسها, ولكن كيف؟ وأنى لهم كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ [آل عمران:185, الأنبياء:35].
قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ [الجمعة:8].
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78].
قال مطرف بن عبد الله بن الشخِّير: "إن هذا الموت قد نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا لا موت فيه".
وقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: "أكثر ذكر الموت, فإن كنت في واسع العيش ضيّقه عليك، وإن كنت في ضيق العيش وسعه عليك".
قال إبراهيم التيمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت, والوقوف بين يدي الله عز وجل".
وقال كعب الأحبار: "من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها".
وكان ابن سيرين, إذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه.
وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد يجمع كل ليلة الفقهاء, فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة, ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
الموت حتم لازم, وضيف لا بد نازل عليك في يوم من الأيام, فاستعد لضيفك، وتجهز لقِراه, قال تعالى: كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88].
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ [الرحمن:27,26].
ولو نجا من الموت أحد لنجا منه خيرة الله من خلقه, محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30].
وقد واسى الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته في خلقه, وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ.
أيها الأخوة, ذكر الموت يورث الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ويقصر الأمل، ويزيد في الطاعة ويمنعك من المعصية.
أيها الأخوة الأعزاء, اعلموا أن للموت سكرات, يلاقيها كل إنسان حين الاحتضار, كما قال تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، وسكرات الموت هي: كرباته وغمراته.
نعم, هي سكرات الموت التي عانى منها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ففي مرض موته صلوات الله وسلامه عليه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول: ((لا إله إلا الله! إن للموت سكرات)) رواه البخاري.
وتقول عائشة رضي الله عنها في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت الوجع على أحدٍ أشدَّ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه مثلت بقول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتـى إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ.
أيها الأخوة المسلمون, لقد رأيت بالأمس القريب خطبة, وشاهدت موعظة، نعم رأيتها وشاهدتها ولم أسمعها, رأيتها بعيني ولم أسمعها بأذني.
رأيتها بعيني فأردت أن أنقل لكم صورتها بكلامي وقولي، ووالله الذي لا إله غيره, لو جُمعت كلمات الدنيا، وزُخرفت بكلام الأدباء، ونظم الشعراء، وتعبير الحكماء, ما استطاعت أن تصف هذا المشهد.
إنها خطبة صامتة، نعم رأيت خطبة صامتة، ولو تكلمت هذه الخطبة لكانت خطبة الإسلام.
ووالله لقد أثّر فيّ هذا الموقف منذ أن رأيته إلى يومي هذا, وأحببت أن يشاركني أخواني المسلمين هذه الموعظة, علّ الله أن يوقظ بها القلوب، ويحييَ بها الإيمان, ويبعث في النفوس الخوف من الله.
كنت في مستشفى من مستشفيات الرياض عند والد أحد أصدقائي، وبينما كنا جالسين عنده، إذا بالأجهزة تضطرب وإذا بالأجراس تقرع، واضطربنا جميعًا, فجاء الأطباء من كل حدب وصوب، واجتمع عليه أكثر من سبعة استشاريين وأطباء أخصائيين, وإذا بنَفَس الرجل يتراد، والقلب يخفق والعيون تشخص.
فقال أحد الأطباء لي: لقنه الشهادة. فأخذت أذكر الله حتى يموت على شهادة الحق.
أين الأخصائيُّون؟ أين الأطباء؟ ألا يدفعون عنه الموت؟! ألا يحاولون إنقاذه؟ وضعوا مقوي القلب, وحركوا الأجهزة, ولكن وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ.
لكنها كانت ساعة الصفر، ساعة الرحيل فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:83, 84].
فوالذي نفسي بيده, ما كنت أظن الموت هكذا حتى شاهدته، وما كنت أحسب أن تُنزع الروح بهذه الصورة حتى عاينتها.
لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
كأنني بين تلك الأهل منطرحًــا على الفراش وأيديهـم تقلبنـي
وقد أتوا بطبيب كي يعالجنـــي ولم أر من طبيب اليوم ينفعنـي
واشتـدَّ نزعي وصار الموت يجذبهـا من كل عرقٍ بلا رفق ولا هـونِ
واسـتخرج الروح مني في تغرغرها وصـار في الحلق مُرًّا حين غرغرني
وغمضـوني وراح الكل وانصرفـوا بعد الإياس وجدّوا في شرا الكفـن
وقام من كان أحب الناس في عجـلٍ إلى المغسـل يأتينـي يغسلنــي
وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقــًـا حرًا أديـبًا أريبـًا عـارفًا فطـن
فجاءني رجــل منهم فجـرَّدنـي من الثياب وأعراني وأفردنـــي
وأسكب المـاء من فوقي وغسلنـي غسلاً ثلاثًا ونادى القوم بالكفـن
وألبسونـي ثيابـًا لا كموم لهــا وصـار زادي حنوطًا حين حنطني
وقدموني إلى المحـراب وانصــرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعنـــي
اللهم يا رحمن يا رحيم, يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما, يا حي يا قيوم خفف علينا سكرات الموت.
اللهم يا سامع الصوت, ويا سابق الفوت, أحسن خاتمتنا, وأمِتنا ميتة حسنة, يا ذا الجلال والإكرام.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا أيها المسلم، انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعهُ لروحك، وتصور كربَه وسكراته، وغصصه وغمّه وقلقه..
وتصور بدو الملك لجذب روحك من قدميك ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنِك فنشطت من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه، وعمّت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجلّ محزون ينتظر إما البشر من الله بالرضا وإما بالغضب..
فبينما أنت في كربك وغمومك، وشدة خزنك لارتقابك إحدى البشريين، إذا سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك، فيلزم حينئذٍ غاية الهم والحزن، أو الفرح والأنس والسرور قلبك حين انقضت من الدنيا مدتك، وانقطع منها أثرك وحُملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك.
وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا أو ملئ رعبًا وحزنًا وعبرةً، وبزيارة القبول وهول مطلعه وروعه الملكين منكر ونكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة ما فيها يخير .. الأول: من ربك؟ الثاني: ما دينك؟ الثالث: من نبيك؟.
فتصور أصواتهما عند ندائهما لك ليجلس لسؤالهما لك، فتصور جلستك في ضيق قبرك وقد سقط كفنك عن حقويك، والقطن عن عينيك..
ثم تصور شخوصك ببصرك إليهما وتأملك لصورتيها، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور، وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك ..
لما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى.. فقيل له في ذلك، فقال: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالجنة أو بالنار.
ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة، قال: اللهم إني أذنبت فإن غفرت لي فقد مننت وإن عذبتني فقد عدلت، وما ظلمتُ لكن أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثم مات رحمه الله.
ولما حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى وقال: إني لم أبك جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا .. ولكن على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل في أيام الشتاء.
ولما حضرت عبد الله بن المبارك الوفاة قال لفلان: اجعل رأسي على الأرض فبكى غلامُه، قال: ما يبكيك، قال: ذكرتُ ما كنت فيه من النعيم، وأنت هو ذا تموت على هذه الحال..
فقال: إني سألت ربي أن أموت على هذه الحال، ثم قال: لقني لا إله إلا الله إذا الحال تغيّر، ولا تُعِد عليَّ الشهادة إلا إن تكلمت بعدُ بكلام.
دخل الحسن البصري على رجل وهو في سياق الموت يجود بنفسه فقال: إن أمرًا هذا آخره.. لحقيق أن يتزهد في أوله.
ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى .. قالوا: ما يبكيك؟ قال: بُعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط في النار.
ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة وجعل يجود بنفسه ويقول:
ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟! ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟!. ثم قبض رحمه الله.
| |
|