molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: غزوة الأحزاب - خالد بن عبد الله المصلح الجمعة 4 نوفمبر - 4:02:48 | |
|
غزوة الأحزاب
خالد بن عبد الله المصلح
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله بعث محمدًا بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، فجاهد في الله حق جهاده، بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، فكانت حياته كلها موقوفةً على الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، فكان بذلك أرفع الناس ذكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا، فقاتل وقوتل، وأصاب وأصيب منه هو وأصحابه رضي الله عنهم، فكان جهادهم وكانت دماؤهم مشاعل نور وهداية، أخرج الله بها كثيرًا من الناس من الظلمات إلى النور.
هم العصبة المثلى ولولا جراحهـم لظل بهيم الليل كالموج عاتيـا
ولولاهم كـانت ظلامًـا لأهلهـا ولكن هـم فيهـا بدور وأنجم
أيها المؤمنون، إن من المعارك التي خاضها رسول الله بنفسه غزوة الأحزاب التي قصّ الله تعالى نبأها في كتابه، في سورة سميت باسم تلك الغزوة وهي سورة الأحزاب، أظهر الله سبحانه وتعالى فيها من عظيم قدرته وبديع صنعه ولطيف فعله ونصره لأوليائه وخذلانه لأعدائه ما تطيب به قلوب المؤمنين المتقين.
ففي السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال جاءت قريش ومن معها من الأحزاب على الصفة التي ذكرها الله تعالى في كتابه حيث قال: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُم [الأحزاب:10]، وذلك أن اليهود عليهم لعنة الله لما رأوا انتصار المشركين على أهل الإيمان يوم أحد طمعوا في القضاء على الإسلام بالكلية، فانتشروا في أحياء العرب يحرّضونهم على غزو رسول الله ، ويؤلبونهم عليه، ويعدونهم بالمؤازرة والنصر، فاستجابت قريش لهم وغطفان وغيرها من قبائل العرب، فكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف مقاتل، يريدون أن يطفئوا نور الله بأسيافهم، والله يتم نوره ولو كره الكافرون، فلما سمع رسول الله بمسيرهم إليه استشار أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق ليحول بين العدو وبين المدينة، فأمر النبي بحفر الخندق شمالي المدينة، فبادر المسلمون إلى ذلك، وشاركهم النبي بنفسه في الحفر، فكان ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه وهو يقول:
والله لـولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنـا ولا صلينـا
فأنزلـن سـكينة علينـا وثبت الأقـدام إن لاقينـا
وقد كان ـ أيّها المؤمنون ـ في حفر النبي هذا الخندق من آيات نبوته وعلامات رسالته ما ازداد بها المؤمنون إيمانًا، فمن ذلك أن هذه الغزوة كان فيها من النصب والجوع ما لم يكن في غيرها، فاستمع إلى ما ذكره جابر من نبأ تلك الغزوة، قال : إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْيَة شديدة، فجاؤوا النبي فقالوا: هذه كُدية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل))، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقًا، فأخذ النبي المِعول فضرب، فعاد كثيبًا أَهْيل ـ أو أهيم ـ فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعَنَاق، فذبحت العَناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرْمة، ثم جئت النبي والعجين قد انكسر، والبُرْمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيِّم لي، فقم أنت ـ يا رسول الله ـ ورجل أو رجلان، قال: ((كم هو؟)) فذكرت له، قال: ((كثير طيب))، قال: ((قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي))، فقال: ((قوموا))، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا))، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويُخَمِّر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل ي+ر الخبز ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية، قال: ((كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة))[1].
ومن الآيات ـ أيها المؤمنون ـ التي ظهرت في حفر هذا الخندق: عن البراء بن عا+ قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ))، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا))، ثُمَّ قَالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ))، وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا))، ثُمَّ قَالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ))، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا))[2]. فاستبشر بذلك المؤمنون الصادقون، وتبلبل الواهنون المرتابون، فقال الذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا.
فلما اجتمعت جحافل الكفر حول المدينة، وضيقوا عليها الخناق، اشتدت الحال بالمسلمين، وعظم عليهم الكرب، وزاد الأمر أن اليهود يهود بني قريظة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي ، فضاق الأمر بالمسلمين كما قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يعني: الأحزاب، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني: يهود بني قريظة، وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11]، ومع شدة الكرب وعظم البلاء ما زاد المؤمنون على أن قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، أما المنافقون فقد قالوا: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12].
أيها المؤمنون، أقام المشركون محاصرين رسول شهرًا، ولم يكن بينهما قتال يذكر، لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، فأراد النبي لما طال على المسلمين الخطب أن يصالح الكفار، إلا أن الصحابة أبوا ذلك لما شاورهم النبي .
وكان من عظيم ما هيأه أيضًا لأمة الإسلام أن أرسل على المشركين جندًا من الريح، فقوضت خيامهم، وخربت بنيانهم، فلم تدع لهم قِدرًا إلا كفأته، ولا طنبًا إلا قلعته، وأرسل عليهم الملائكة فألقوا في قلوبهم الرعب والخوف. فلما بلغ الأمر مبلغه بقريش صاح فيهم أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم ـ والله ـ ما أصبحتم بدار مقام، فَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.[الأحزاب:25].
[1] أخرجه البخاري في المغازي (3792), ومسلم في البر والصلة (4684).
[2] أخرجه أحمد من حديث البراء بن عا+ (17946).
الخطبة الثانية
أما بعد: فقد سمعتم ـ أيها المؤمنون ـ نبأ هذه الوقعة، وخبر هذه الغزوة التي حوت آيات بينة ودروسًا قيمة، فدروس هذه الوقعة وعبرها كثيرة، وسأشير إلى أهمها وأبرزها.
فمن أهم دروس هذه الغزوة أن الله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، كما قال جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، فالله سبحانه نعم المولى ونعم النصير، يبتلي أولياءه ليميز الخبيث من الطيب، فإذا تبين أهل محبته وأهل دينه وتميزت الصفوف جاءهم وعده ووقع خبره، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
ومن دروس هذه الغزوة حسن بلاء النبي وأصحابه، حيث إنهم صبروا على ما قدره الله تعالى عليهم بقلوب ثابتة وعزائم راسخة، فلم تستفزهم الكروب ولم تقعدهم الخطوب، بل كانوا كلما اشتدت الكروب وادلهمت الخطوب زادهم ذلك إيمانًا وتسليمًا، وتصديق ذلك في هذه الغزوة قوله تعالى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
ومن دروس هذه الغزوة أن المؤمنين إذا اجتهدوا في الدفاع عن دينهم وجهاد أعداء الله وأعداء رسوله وفعلوا قصارى طاقتهم في نصر الله ورسالته فإن الله سبحانه وتعالى يكرمهم بعون منه وتأييد، فيصنع لهم ويهيئ لهم من أسباب الغلبة والنصر ويبعث لهم من جنود العِزّ والتمكين ما لم يكن لهم على حساب، ويؤيدهم بجند من عنده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فإذا صدقنا إيماننا، وتمسكنا بديننا، والتزمنا بنهج نبينا في كل أمورنا، فلا يضرنا كيد الكائدين ولا مكر الماكرين.
ومن دروس هذه الغزوة شدة عداوة اليهود للإسلام وأهله، وأما نقضهم للعهود ونكثهم للمواثيق فهذه من أخص خصائصهم على مر العصور وكر الدهور، قال الله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].
| |
|