molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الأشهر الحرم - خالد بن عبد الله الجبير الجمعة 4 نوفمبر - 3:18:22 | |
|
الأشهر الحرم
خالد بن عبد الله الجبير
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله تكونوا خير عباد الله وأكرمهم عليه وأقربهم إليه، فتفوزوا بمرضاته وتحوزوا خيراته، والأمر لا يتطلب سوى مجاهدة النفس وحملها على الالتزام بحدود ربها ومنعها عن شهواتها التي لا تحلّ لها، ولقد أكثر جل وعلا لعباده من الوصية بتقواه تحذيرًا لهم من سخطه وأليم عقابه، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. فاتقوا الله عباد الله، وتأملوا نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، واشكروه عليها باغتنامها فيما يزيد الزاد الحق ليوم لقاء الرب جل جلاله.
عباد الله، إن من نعمة الله على عبده المؤمن بعد أن خلقه وأوجده أن منّ عليه بالهداية لعبادته وطاعته ومكّنه من العمل ورغّبه فيه، ألا وإن ما يمنّ به سبحانه على البعض من الصحة والعافية والأمن والاطمئنان هو من أكبر وأقوى الأسباب التي توجب شكرا وتدفع لمزيد عمل وطاعة، وبهذا يكون الفرق بين الخلائق، بل بين الإخوة والأصحاب يوم القيامة، وتأمل هذا الحديث أيها الحبيب، وتذّكر من فارقته أو فارقك من صحبك، فستعرف مدى الفضل الذي خصصت به ومُنّ به عليك:
روى النسائي وأبو داود وأحمد عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ثُمَّ مَاتَ الآخَرُ ـ أي: بعده بفترة ليست بطويلة ـ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ : ((مَا قُلْتُمْ؟)) قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ. وانظر لمقولتهم: اللهم ألحقه بصاحبه لأنّ صاحبه الأول مات شهيدا، فبالتأكيد منزلته عالية رفيعة. فَقَالَ النَّبِيُّ : ((فَأَيْنَ صَلاتُهُ بَعْدَ صَلاتِهِ؟! وَأَيْنَ صِيَامُهُ أَوْ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ؟! مَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)). فهما صحابيان آخى النبي بينهما، عَمِلا سويّة، وعاشا سوية، وكانا لبعضهما عونا وسندا في كل الشأن، ولكن فضل الله تعالى ومنته التي يمن بها على من يشاء فضلا منه وقد يحرم منها من يشاء عدلا وحكمة قضى بأن يُقتَل أحدهما فيدخل في زمرة الشهداء ويتأخر أجل الثاني فترة ليست بطويلة بدليل أنهم لا زالوا يذكرون صاحبه. وتأمّل: الأول قتل شهيدا، والثاني مات ميتة طبيعية، إلا أن المدَّ في العمر مع استغلال الفرص بكثرة العمل والإخلاص فيها وصدق النية كانت سبب زيادة درجة الثاني ورفعته على صاحبه إلا أن يشاء الله فيرفع الأول مع الثاني منهما.
واعلم ـ عبد الله ـ أن كثيرًا من الخلق قادر على العمل ولكن الله جل في علاه كرّههم وكره انبعاثهم للطاعة والصلة به سبحانه بسبب سوء ما صدر منهم فثبطهم ولم يعنهم بل تركهم لأنفسهم تقودهم كما قال جل وعلا عن البعض من أولئك: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وقال سبحانه محذِّرا: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
إذا فاعلم ـ عبد الله ـ أن إصرار البعض على ما هم فيه من معصية وغفلة علامةٌ على مقت الله لهم وعدم مبالاته سبحانه بهم، فالله كما يغار على أنبيائه فهو يغار سبحانه على شريعته، وقد يجنبها بعضَ من لا يستحقها. كما يجب أن تعلم أن إقبالك على الصلاة والطاعة راغبا فرِحا غير مكرَه ولا محرج إنما هو علامة للقبول عند الله جل في علاه، فلا تشمت بأولئك، ولا تلقِ بالا لهم ولا لما يصدر عنهم، واعمل لنفسك على الترقي في المنازل عند ربك سبحانه، فتلك ترقية ورفعة لا تحتاج إلا لعزم صادق وجهد لا يعرف الكلل ولا الملل، وليس غير ذلك شيء.
وأول ذلك التعامل الحق مع الفرص الربانية التي يمن بها جل وعلا دوما على عباده، فالله سبحانه قد خصص أمكنة وأزمنة فاضلة يُضَاعِفُ فيها قليلَ العمل ويفتح أبوابه موسعة لمريد زيادة الدرجات، وجمعتنا هذه هي الجمعة الثانية في موسم عظيم من مواسم الله العظام هو موسم الأشهر الحرم، تلك الأشهر التي نص عليها جل وعلا في محكم كتابه الكريم بقوله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، ورسول الله يبين هذه الأشهر ويؤكد على أهميتها وضرورة احترامها بقوله في الحديث الصحيح: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري ومسلم. وجاء في نهاية الحديث التحذير من الظلم كما جاء في الآية الكريمة ليكون هذا تنبيها وبلاغا يتذكر به أولو الألباب فيزجروا النفس وينهوها عن الاندفاع وراء ما لا يحبه الله ولا يرضاه، سواء أكان انتصارا للنفس أو للمبادئ، كما ينهونها عن الانسياق وراء الشهوات فالله جل في علاه يقول: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وهذا نهي عام عن كل مظلمة للنفس وإن كان السياق في الأصل نهي عن ظلم النفس بالاعتداء على الآخرين.
وإن فيما حفظه التاريخ من تعظيم المشركين عُبّاد الأصنام والأوثان لهذه الأشهر لَدعوة للمسلمين لأن يعظموا هذه الفترة الزمنية التي نبه جل وعلا ونبه نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام على فضلها وأهميتها، ولكن الناس غفلوا عنها فلم يحفظوا منها سوى أيام الحج، حتى إنك لا تسمع ناهيا ينهى عن مشاجرة أو مخاصمة ولا أبا يحدث أبناءه بأننا في أشهر محرمة يجب كف النفس فيها عما لا يحل لها، ولئن شرع في رمضان زيادة العمل والصلة به سبحانه فإن في الأشهر الحرم تشرع طاعات وعبادات معينة، ويشرع بل ويؤكد على الكف عن السيئ من العمل سواء في حق الآخرين أم في حق النفس، ومعصية الله ظلم للنفس وظلم الآخرين والتعدي عليهم ظلم للنفس أيضا. وإنه لمن الغبن أن تترحل الأيام العظام ذوات الفضل ترحُلَ غيرها من الأيام، فكم من فرصة مرت كنا نعد النفس بالعمل فيها ولكن قصرنا وصرنا بآمالنا نتطلع لموسم آخر نتزود منه، وها هي الآن فرصة أخرى حلت تلوح بفضائلها وخيراتها، فماذا أعددنا لها؟! ولنتذكر الآن صاحبا من أصحابنا كانت له منزلة خاصة واريناه الثرى ماذا يتمنى الآن؟! وماذا نتمنى له نحن؟! ولننتبه لأنفسنا الآن علها أن لا تندم غدا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه .
وبعد: عباد الله، وإن مما يشرع في هذه الأشهر الحرم بل وإن أعظم سبب قد حرمت هذه الفترة لأجله هو الحج إلى بيت الله المحرم، تلك العبادة الخاصة العظيمة التي زرع الله سبحانه في فطر الناس وأفئدتهم الاستجابة لها منذ ذلك النداء الخالد من الرب جل جلاله لخليله ونبيه إبراهيم عليه السلام بقوله سبحانه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. جاء في تفسير ذلك الأمر عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ، قال: ربّ ومَا يبلغ صوتي؟! قال: أذّن وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فحجوا، قال: فسمعه ما بين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون؟!
ولو أن غنيمة العبد من الحج هي فقط ما رواه ابن ماجة وغيره عن عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)) لكانت غنيمة كافية.
ومن لم يتيسر له الحج فقد شرع له من العمل ما قد يمنح به فضلا عظيما يدرك به شيئا مما فاته من أعمال الحج سيأتي ذكرها بإذن الله في حينها، ولعل في الحديث التالي تذكرة وعبرة إذ هو توجيه ودعوة في كل الأوقات ويتأكد في الأوقات الفاضلة دعوة لأعمالٍ من اعتنى بها عاش في خير ومات على خير، عن مُعَاذَ بْن جَبَلٍ وابن عباس وغيرهم رضوان الله عليهم قَالَوا: احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِي صَلاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: ((كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ))، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: ((إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمْ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلاتِي حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ ـ أي: الملائكة المقربون في أي شيء يتباحثون؟ وعن أي شيء يتناقشون؟ إنهم يبحثون ويتناقشون حول أفضل الأعمال ـ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي يَا رَبِّ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي رَبِّ، فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ: وَمَا الْكَفَّارَاتُ، قُلْتُ: نَقْلُ الأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلاةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ))، وفي رواية أنه قال: ((وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلامِ وَالصَّلاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)) الحديث رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني وغيره.
عباد الله، هذه أعمال فاضلة يَغبِطُ أهلُ السماءِ أهلَ الأرض عليها، وهي ليست سوى خطوات إلى المسجد لكل الفروض، وبالأخص الجمع، وتعميم الوضوء على الأطراف والاعتناء بإكماله حتى ولو كان الوقت باردا أو الماء شحيحا أو مؤذيا ومؤلما، وإطعام الضيوف والمحتاجين، ولين الكلام وحسن الألفاظ، وركعات بالليل عندما يلذ النوم وتكره النفس الاستيقاظ، فهل نتمسك بها ونلزمها في كل حين وبالأخص في الأزمنة الفاضلة علنا أن نعيش بخير ونموت بخير ونعود من ذنوبنا وخطايانا كيوم ولدتنا أمهاتنا؟!
نسأل الله تعالى من فضله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على أنفسنا بالخشية منه سبحانه وتقواه، وأن يقر أعيننا بالحشر مع نبينا وبرؤية وجهه الكريم في جنات عدن ووالدينا وذرياتنا وأحبتنا والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ولنتذكر دوما أننا في أشهر حرم يحرم فيها الظلم للنفس وللآخرين، فلنتق الله فيها.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
| |
|