molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: صلة الرحم- حسين بن غنام الفريدي الأربعاء 2 نوفمبر - 7:26:21 | |
|
صلة الرحم
حسين بن غنام الفريدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فقد أمركم بذلك المولى سبحانه القائل وهو أصدق القائلين: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أيها المسلمون، لقد أمرنا الله تعالى بصلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب؛ توثيقًا للروابط بين أفراد الأسرة لتكون متآلفة متناصرة، قال جل شأنه: وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ [الأنعام:36].
يا عبد الله، إن صلة الرحم من أجل الأعمال الصالحة التي تضمن لك الجنة مع توحيد الله في العبادة. قال رجل: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي ال+اة، وتصل الرحم)) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله، إن صلة الرحم بركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة، يكتب الله بها العزة والمنعة، وتتحلى القلوب بها إجلالاً وهيبة، يفوز صاحبها بحسن الثناء، ويقيه الله بفضله وكرمه ميتة السوء، قال : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)). ومعنى بسط الرزق: سعته وبركته، ومعنى إنساء الأثر أي: تأخير الأجل، وهو كناية عن زيادة العمر وبركته.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (من اتقى ربه ووصل رحمه نُسئ في أجله، وثري مالُه، وأحبه أهله) رواه البخاري في الأدب المفرد. وعن علي رضي الله عنه مرفوعًا: ((من سره أن يُمد له في عمره ويُوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) رواه الإمام عبد الله في الزوائد على المسند.
بصلة الرحم تقوى المودة وتزيد المحبة وتتوثق عرى القرابة وتزول العداوة والشحناء ويحِنّ ذو الرحم إلى أهله، إنهم العدة والسند وهم الأهل والقوة.
أخاك أخاك إن من لا أخـا له +ـاعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه وهل ينهض البازي بغير جناح
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي تطير به، وبهم تصول وبهم تجول، وهم العدّة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيهم، وأشركهم في أمورك، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلُك أشقى الخلق بك).
ولتعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتى، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، إنها زيارات وصلات وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات وعفو عن الزلات وإقالة للعثرات، عدل وإنصاف واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح.
وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطؤوا، والإحسان إليهم ولو أساؤوا.
إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بينة في قول نبينا محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
إن صلة الرحم حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة، وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب ((أمك وأباك، ثم أدناك أدناك)). وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودة واتساع الصدور وسلامة القلوب.
فجدير بك ـ يا أخي ـ أن تسارع لصلة أرحامك، فواس بائِسَهم، وسلم على غائبهم، وشاركهم الأفراح، وأظهر السرور لهم، وشاطرهم الأتراح، وخفف آلام الحزن عنهم، وأسرع لقضاء حوائجهم والاجتماع بهم بين حين وآخر.
وإنه مما يثلج الصدر ـ يا عباد الله ـ ويدعو إلى السرور والغبطة ما يفعله بعض الأسر من الاجتماع فيما بينهم في الشهر مرة أو في السنة مرة أو مرتين، ليسلم بعضهم على بعض، ويتدارسوا أحوالهم وينظروا في أمورهم فيما بينهم، فتزداد بذلك الروابط قوة، ويتعرف الصغير على أقاربه وذوي رحمه، ويزداد الكبير معرفة وعطفًا وفرحًا وألفة.
وإن لي مع هذا الموضوع وقفة ـ بإذن الله ـ للحث عليه وبيان مزيته وتوظيفه في الدعوة إلى الله، وضبطه بضوابط الشرع، وإسداء بعض النصائح التي من شأنها أن تجعله ناجحًا ومستمرًا. سأخصص خطبة تتحدث عن هذا الموضوع إن شاء الله، فأسأل الله العون والتوفيق.
عباد الله، إن على من أنعم الله عليه بالمال أو الجاه حقوقًا وواجبات أكثر من غيره، وليحذر من البخل على أقاربه بماله وجاهه، وليسأل الله أن يقيه شح نفسه، فمن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، والبخيل من بخل بجاهه.
ما أجمل أن يتصف الرجل بالإحسان إلى أقاربه، يتفقد أحوالهم ويسد غيبة غائبهم، ويقضي حوائجهم مهما كانت أخلاقهم وصفاتهم. حتى ولو وصل الحال أن يزور سجينهم بأي جرم كان، يتحبب له ويتودد إليه ويسأله عن حاجته فيقضيها، وعن أهله وعن أولاده وعن حاجتهم لي+ب بذلك محبته واحترامه، ولتكون هذه الأخلاق سبيلاً للتأثير عليه بسلوك طريق الاستقامة.
إن كثيرًا من الناس يلقون على أنفسهم رداء الوقار الكاذب؛ فيترفعون عن أقاربهم إذا ما وقعوا في مثل هذه المصائب خوفًا على جاههم وسمعتهم، وما ذاك من مكارم الأخلاق.
يقول الشاعر الجاهلي المقنع الكندي:
يعـاتبني في الدَّين قومـي وإنمــا ديوني في أشيـاءَ تُ+بهم حمـدًا
أسدّ به مـا قد أخلّـوا وضيّعــوا ثغـور حقوق ما أطاقوا لهـا سدّا
ولي جفنـة لا يـغلق الباب دونها مـكلّلـة لحمًـا مدفقـة ثـردا
وإن الذي بيـني وبين بنـي أبــي وبيـن بني عمي لمختلـف جـدًّا
إذا أكلـوا لحمـي وفَرتُ لحومهـم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجـدًا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيـوبهـم وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا
وليسوا إلى نصري سراعًا وإن هـمُ دعـوني إلى نصـر أتيتهـم شدًّا
ولا أحمـل الحقد القديـم عليهـم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهـم جلّ مـالي إن تتـابع لي غنى وإن قـلّ مـالي لم أكلفهم رِفـدا
ولئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج ورفع الظلم عن المظلوم والمساعدة على وصول الحق، فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا من الحمية الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة وينشر بها الفساد وتتقطع بها الأرحام، ولن يكون البغي والعدوان طريقًا إلى الحق أو سبيلاً إلى العدل والخير.
فاعرفوا الحق وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، استقيموا على أمر ربكم، ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله، وإياكم وقطيعة الأرحام، فلا تكونوا من الذين ذمهم لله تعالى في قوله: وّالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ [الرعد:25].
عباد الله، إن مع كل ما سمعنا من الآيات والأحاديث التي تحث على صلة الأرحام، فإن في الناس من تموت عواطفه ويزيغ عن الرشد فؤاده؛ فلا يلتفت إلى أهل ولا يسأل عن قريب، بل ربما وصل الحال ببعضهم أن يتنكر لأقاربه، ويتعالى عليهم ويترفع أن ينتسب إليهم، فضلاً عن أن يشملهم بمعروفه ويمد لهم يد إحسانه، بل قد يصل به الحال إلى أشد من ذلك، فيقطع إخوانه وأشقاءه من أجل حطام الدنيا.
أما علم هؤلاء أن قطيعة الرحم شؤم وخراب وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ [محمد:22، 23]. يقول الحسن البصري رحمه الله: "إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل وتحابوا بالألسن وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم".
إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب وعقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة. أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد ـ ورواة أحمد ثقات ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم))، ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان جالسًا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع الرحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة ـ أي: مغلقة ـ دون قاطع الرحم).
عباد الله، إن المسلم المرهف الحسّ المتطلع إلى رضوان الله تعالى لتهزّه هذه النصوص من الأعماق؛ إذا تقرر أن قطيعة الرحم تحجب الرحمة وترد الدعاء وتحبط العمل، وإنه لبلاء كبير يحيق بالمرء أن يدعو فلا يستجاب له ويعمل فلا يرفع له عمل.
معاشر الأحبة، إن أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قلّ نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها أو شيء صغير رآه، وما درى أنه بهذا قد جر على نفسه وأهله العداوة والجفاء والحقد والبغضاء، فيستحقون بذلك اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة، وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ [الرعد:25].
ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: "لا تصاحب قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع".
أيها الإخوة في الله، سمعنا عمن يترك صلة أرحامه وزيارتهم بسبب ما عندهم من المنكرات. فيقال له: بل الواجب زيارتهم وصلتهم، ومن الصلة بهم النصح لهم، وله أن يستعمل الهجر معهم أحيانًا كعلاج لهذه الأمراض إن كان نافعًا، أما أن يترك صلتهم وزيارتهم بالكلية، فهذا لا يجوز.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبي الرحمة والملحمة...
| |
|