molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الاحتضار- حسين بن غنام الفريدي الأربعاء 2 نوفمبر - 7:10:39 | |
|
الاحتضار
حسين بن غنام الفريدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله الحيَّ الذي لا يموت ولا يفنى، وكل حيّ يموت ويفنى، قضى على عباده بالفناء وتفرد بالبقاء، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]. فمن أطاع الله ورسوله كتبت له نهاية السعداء، ومن عصى الله ورسوله فليس له طريق إلا طريق الشقاء.
عباد الله، إن للجانب المادي المسيطر على حياتنا دورا كبيرًا في بعدنا عن التفكير في مآلنا ومصيرنا، عند ذلك ضعفت الهمم وخارت العزائم وقست القلوب، وهذا حال لا يرضي الله، فجدير بنا أن نتلمس مواضع الداء لنفلح في وصف الدواء.
وإن أعظم دواء لهذا المرض تذكّرُ اللحظات الحاسمة التي سنصير إليها جميعًا، وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
قفوا وتأملوا قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران:185].
عباد الله، إن لحظة الاحتضار والتي سنعاني منها جميعًا لحظة حاسمة، لها وقع عميق مؤثر، وذلك حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة عالم آخر، والجميع حوله لا يملكون له صرفًا ولا عدلاً: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ [ق:19، 20].
إنها ـ والله ـ لساعة مهولة ذات كرب شديد، وما بعدها إلا وعد أو وعيد، لو تفكرت في حلولها وأنت في نعيم وهناء لتكدّرت حياتك، ولهانت الدنيا عندك، وصغر عظمها في عينك، وتبدل فرحك حزنًا وسعادتك كدرًا، كيف لا وأنت ستفارق الأموال والأولاد والأحباب والأصحاب، وتنقل إلى دار الحساب والأهوال، حتى يفضي بك إلى أحد الفريقين: فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ [الشورى:7].
إنها حقيقة ويقين أشبه ما تكون بالشكّ، وذلك عندما غفلت قلوبنا، نشيّع الجنائز ونجلس في العزاء وما في قلوبنا ذكر للموت، وما عندنا منه توجّس ولا خوف من سوء الخاتمة.
عباد الله، إن تذكّر الموت لا يقرّب آجالكم ولا ينقص من أعماركم، بل هو زيادة في يقينكم واستعداد لرحيلكم.
والموت يأتي على الصغير والكبير والعزيز والحقير والذكر والأنثى، وإن له سكرات شديدة لو صرفت عن عبد لصرفت عن أكرم الخلق عليه الصلاة والسلام، فقد كان يبلّ يده بماء ويمسح بها وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)).
ما أقرب الموت منّا تجـاوز الله عنّـا
كأنه قد سقـانـا بكأسه حيث كنّا
يقول الحسن البصري: "فضح الموت الدنيا، لم يترك لذي لبّ فرحًا".
هو الموت فاصنع كلّ ما أنت صانع وأنت لكأس الموت لا بدّ جارع
لو لم يكن ـ يا عباد الله ـ أمام العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت لكان جديرًا أن ينغّص عليه عيشه ويتكدّر سروره ويفارق سهوه وغفلته، وحقيقًا أن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، كيف لا ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته والصراط وزلّته والحساب وشدته.
قال تعالى: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ [القيامة:26-29].
إنه مشهد عظيم، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كل حيّ، الموت الذي يفرّق بين الأحبة، لا يستجيب لصرخة ملهوف ولا لحسرة مفارق ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف، الموت الذي يُصرع به الجبابرة ويقهر به المتسلطون. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]، فيقال: فلان مريض ثقيل فهل إلى دواء من دليل؟ أو هل إلى طبيب من سبيل؟ فتنقل إلى المستشفى، ويدعى لك الأطباء وما يرجى لك الشفاء، قد ثقل لسانك ولا تقدر على مخاطبة إخوانك، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وتحقق فراقك، وارتفعت أجفانك، وصدقت ظنونك، وبكى أولادك وإخوانك، وعند ذلك انقطع عُوّادك واستراح حسّادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنًا بأعمالك، فيا لها من رحلة ويا له من قدوم.
فما تزوّد مما كان يجمعـه سوى حنوط غداه الين في فرق
لما احتضر عمرو بن العاص سأل ابنه أن يصف له حاله فقال: (لكأنّ جنبي في تخت، وجعل رضوي على عنقي، ولكأني أتنفّس من سمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجرّ من قدمي إلى هامتي).
الموت فاعمل بجـد أيهـا الرجـل واعلم بأنك من دنيـاك مرتحل
كأنني بك يا ذا الشيـب في كرب بين الأحبة قد أودى بك الأجل
فاعمل لنفسك يا مسكيـن في مهل مـا دام ينفعك التذكار والعمل
عباد الله، إن هذه اللحظات لتصدق فيها اللهجات وتفتضح فيها العورات، ولقد كان للسلف معها حدث وحديث وعبرة وعبارات، فهذا عمر رضي الله عنه لما طعن وأخذ ينازعه الموت قال لابنه: (ضع خدي على التراب)، فوضعه فبكى حتى لصق الطين بعينيه وجعل يقول: (ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي).
وبكى أبو هريرة عند موته فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: (يبكيني بُعد المفازة وقلة الزاد وضعف اليقين والعقبة الكؤد التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار).
ولما حضرت الوفاة معاوية بن أبي سفيان قال: (أقعدوني)، فأقعدوه فجعل يذكر الله تعالى ويسبحه ويقدسه، ثم قال مخاصمًا نفسه: (آلآن تذكر ربّك ـ يا معاوية ـ بعد الانحطام والانهدام؟! ألا كان لك ذلك وغصن الشباب نضير ريان؟!) وبكى حتى علا بكاؤه، ثم قال:
هو الموت لا منجى من الموت والذي أحاذر منه الموت أوهى وأفظع
ثم قال: (يا رب، ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك و لا وثق بأحد سواك).
يا جامع المال والمجتهد في الحطام، ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي ـ والله ـ للخراب والذهاب، وجسمك للهوام والتراب. يقول أبو حازم: "كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت".
قال المزني: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله تعالى واردًا، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها"، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولمـا قسا قلبي وضـاقت مذاهبـي جعلت الرجا مني لعفوك سُلّما
تعـاظمـني ذنبي فلمـا قـرنتـه بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفـو منة وتكرّمـا
عسى من له الإحسان يغفـر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما
عباد الله، إذا كانت هذه حال الصالحين فإنا ـ والله ـ أجدر بالخوف والحذر.
عباد الله، إن الله لا يجمع على العبد أمنين ولا مخافتين، فمن خاف الآن أمن عند الاحتضار، ومن أمن الآن خاف عند الاحتضار.
عباد الله، لقد كثر موت الفجأة، فنرى الرجل الصحيح القوي وإذا به يخر صريعًا إما ضحية لحادث سيارة، أو بنوبة قلبية مفاجئة.
فيا أيها الناس، لقد جاء في الحديث أن النبي قال: ((تركت فيكم واعظين ناطقًا وصامتًا، فالناطق القرآن والصامت الموت))، فكفى بالموت واعظًا.
فيا أيها المساكين، وكلنا كذلك، لا بالقرآن عملنا، ولا بالموت تفكرنا، نمسي ونصبح وقلوبنا معلقة بعلائق الدنيا، ما عندنا من الموت خبر، ولا نحن منه على حذر، قلوبنا خالية من خوف الرحمن عامرة بخداع الشيطان، كأننا قد أمنّا الموت وطوارقه، ولا أدلّ على ذلك من أعمالنا التي نعملها.
فيا عباد الله، أما وعظكم أخذ آبائكم وأحبابكم وجيرانكم وإخوانكم؟! فإن فيهم لبلاغًا لمن تذكر وعبرة لمن تفكر.
لقد كانوا معكم يأكلون مما تأكلون ويشربون مما تشربون ويلبسون مما تلبسون، فأصبحوا وقد صارت لهم القبور بيوتًا، وصاروا بين أطباق الثرى سكوتًا، قد قسم الوارث أموالهم، ونكِحت نساؤهم، ومحيت آثارهم، صاروا بأعمالهم مرتهنين وعلى تفريطهم نادمين، ضعفت محنهم وعظمت مصيبتهم وتمنوا العودة إلى داركم هذه، فحيل بينهم وبين ما يشتهون.
فخذوا من ذلك العبرة والعظة، وحاسبوا أنفسكم واقدروا للأمر قدره، وخذوا له الأهبة والعدة، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم أحينا سعداء وأمتنا شهداء، اللهم إنا نسألك عيشة هنيئة وميتة سوية ومردًا غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها برحمتك يا أرحم الراحمين.
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تذكّر الموت لا يعني كثرةَ الحزن وطول النحيب مع الإقامة على التفريط، إن تذكرنا للموت يجب أن يقترن بخوفنا من سوء الخاتمة، وما كان السلف يخافون أمرًا +وء الخاتمة، أجارنا الله وإياكم منها. لما مُدِح أحدهم قال: "العبرة بالخواتيم".
فإياك إياك ـ يا عبد الله ـ أن ينطوي قلبك على شهوة محرمة، أو تصر على كبيرة موبقة، فلربما غلب ذلك عليك حتى ينزل بك الموت قبل التوبة، فيظفر بك الشيطان لتكون من أصحاب السعير.
فيا من قطعت صلتك بالمساجد، ماذا تقول إذا بلغت الروح الحلقوم؟! وماذا تقول عند ذلك يا من أنشأت أولادك على الفساد، وجلبت لهم ما يسيء إلى القيم والاعتقاد؟! ماذا تقول يا من أدمنت الخمور والمخدرات ووقعت في الزنا وهتك الحرمات؟! ماذا تقول يا من ظلمت العباد وسعيت بالفساد؟! وما تقول يا من تتبعت عورات المسلمين ووضعت لهم الكمين تلو الكمين؟! ماذا تقول يا من سخرت من الصالحين وآذيت عباد الله المتقين؟! ماذا تقول يا من غلبك هواك وصمت أذناك، يا من فرطت في الفرائض وأصررت على الصغائر وقارفت الكبائر؟!
يا ترى هل ستوفق للنطق بالشهادتين أم يحال بينك وبينها كما فعل بغيرك؟! وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـٰعِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مُّرِيبِ [سبأ:54].
أعاذني الله وإياكم من ذلك، وجعلني وإياكم ممن قال الله فيهم: يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
| |
|