molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الخيانة والخونة: دروس وعبر - بشير بن علي الشيخي الجمعة 28 أكتوبر - 5:33:27 | |
|
الخيانة والخونة: دروس وعبر
بشير بن علي الشيخي
الخطبة الأولى
قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179].
المحن تميز الخبيث من الطيب، وكلما ركن الناس لحالة من الهدوء يعبث فيها أهل الباطل حتى يظنهم الظانّ أنهم أهل حق وريادة جاء الله بالمحن التي يميز فيها الرائي الخبيث من الطيب.
إن أمتنا الإسلامية تمرُّ في هذا الزمان بمحَنٍ عظيمة ونوازلَ شديدة ونكَبات متلاحقة، ساهم فيها بشدة تعرّض الأمة لخيانات متعدّدة، تارة من أعدائها، وتارات ـ وهو أنكى ـ من أبنائها.
يُخادعني العدو فلا أبالي وأبكي حين يخدعني الصديق
نعم، كل الخيانة قاسية ومريرة مريرة، لكن الأقسى أن يخونك من تتوقّع منه العون.
وبالخيانة أسقطت دولة الخلافة الإسلامية، وكانت رمزًا تجمع شتات المسلمين، فتمزقت أوطان المسلمين إلى بلدان وأقاليم، وأقام أعداؤنا في كلّ موطن وإقليم سلطانًا مواليًا لنفوذهم، ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغتهم في الإلحاد والكفر، وأنشؤوا بذلك أجيالاً من أبناء المسلمين يعادون دينهم ويتنكرون لتاريخهم وأمتهم، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمّل صنوف العذاب والبلاء.
وبالخيانة تم غزونا فكريًا، فلم يستطع الغرب أبدًا أن يغزونا فكريًا ولا أن يهزم أرواحنا حتى حين هزم جيوشنا، لكن تكفّل بالمهمة الخونة من أبناء جلدتنا، وصدق الله تعالى: وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ [البقرة: 204].
بسلاح الغدر والخيانة ذلك السلاح الذي تجرعت الأمة وتتجرع بسببه المرارات، وعن طريقه فقدت الأمة أعظم قادتها وخلفائها ممن أعجَزَ أعداءَها على مر التاريخ، فالرسول سَمَّته يهود، وعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي, وعثمان قتلته يد الغدر, وعلي وغيرهم ممن أغاظ أعداء الله أذاقهم صنوف العذاب والهوان في ساحات النزال، وفي بئر معونة قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة، لأجل هذا جاء التحذير من الخيانة، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27].
والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في الأثر: (لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه).
وينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة، ومن قصص العرب أن رجلاً كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه أناخ بها جانبا وقال له: الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي، فقال له صاحب الفرس: لي طلب عندك، قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد: كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحيلة كذا وكذا، ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي، فقال الرجل: لماذا؟! فقال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس، فإذا مرّ قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعِدوه لأن فلانًا قد ساعد فلانًا فغدر به. فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
والعرب قبل الإسلام كانت ترى في خيانة الوطن جرما يستحق صاحبه فيه الرجم، وقد جاء في سيرة ابن هشام رحمه الله أن أبرهة بنى كنيسة وأراد أن يصرف العرب إليها، فذهب إليها رجل من العرب وأحدث ـ أي: تغوط وبال ـ، فعزم أبرهة على هدم الكعبة وسيّر لذلك جيشا وخرج معه بالفيل، حتى وصل الطائف فخرج إليه مسعود بن متعب فقال له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ونحن نبعث معك من يدلك، فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، وفي الطريق مات أبو رغال فرجمت العرب قبره. فهو قبره الذي يرجم الناس بالمغمّس. وإذا كان التاريخ القديم للعرب لم يعرف سوى أبي رغال واحد فإنه ليحزننا أن نرى الآن رغالين كثر!
عباد الله، نعلم أن الخيانة موجودة في كل الأمم في وقت السلم، وتشتد في الحرب, ولم يسلم منهم زمان دون زمان ولا مكان دون مكان، بل لم يسلم منهم أفضل زمان بوجود أفضل رجل ورجال، زمن النبي وصحابته الكرام، فكيف بمن بعده؟!
في أحد خرج رسول الله في ألف من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني! يقول: ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟!
ولما خرج رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم وكان في الجيش بعض الخونة المنافقين فقاموا يرجفون ويخوّفون المسلمين، فقال بعضهم: أتحسبون جِلادَ بني الأصفر ـ أي: الروم ـ كقتال العرب بعضهم بعضًا؟! والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال.
وكذا فإن لابن سبأ الخائن المنافق الدور الكبير في الفتنة العظمى التي حصلت بين الصحابة، حتى إنه لما سعى علي رضي الله عنه بالصلح بينه وبين طلحة والزبير وساروا في ذلك قام ابن سبأ فيمن كان على رأيه فقال: إنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، فإذا التقوا ـ يعني للصّلح ـ فأنشِبوا الحربَ والقتال بينهم، ولا تدعوهم يجتمِعون، فاختلط المنافقون بالناس، وبينما الجيشان المسلمان يسيران إلى طريق العودة للصلح عزم الأشرار على إثارة الحرب بينهم مع طلوع الفجر، فابتدؤوا الحرب بالهجوم على من يلونهم من جيش طلحة وال+ير، وثار الناس مغضبين، وتفاجَؤوا مما حدَث، فاتهم بعضم بعضًا، ونشب القتال الذي ذهب ضحيته خلق كثير من المسلمين.
وتستمر مكائد المنافقين الخائنين لهدم دولة الإسلام في كل زمان ومكان، والسبب هو غفلة المسلمين عن خطر هؤلاء الخونة المنافقين، فهذا الرافضي الخبيث المنافق ابن العلْقَمِي كان وزيرًا للخليفة العباسي المستعصم بالله محمد الظاهر، وكان لابن العلقمي الدور الكبير في دخول التتر إلى بغداد، وسقوط الخلافة العباسية فيها، والمذابح المروعة التي نتجت عن ذلك، فقد كتب ابن العلقمي إلى هولاكو ملك التتر يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد إذا حضر بجيشه إليها، فكتب هولاكو لابن العلقمي: "إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرّق العسكر"، فلما وصل الكتاب إلى ابن العلقمي دخل على المستعصم، وزين له أن يسرح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأن التتر قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتكليف الدولة كلفة هؤلاء العساكر، فاستجاب الخليفة لرأيه، وأصدر أمرًا بذلك، فخرج ابن العلقمي بنفسه ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية، فتفرقوا في البلاد.
وبعد عدة أشهر زين للخليفة أن يسرح أيضًا عشرين ألفًا فاستجاب لطلبه، وفعل ابن العلقمي كما فعل في الأولى، فاختارهم على عينه، كان هؤلاء الفرسان الذين سُرّحوا ـ كما يقول المؤرخون ـ بقوة مائتي ألف فارس.
ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحسَّ أهل بغداد بمداهمة جيش التتر لهم، فاجتمعوا وتحالفوا وقاتل المسلمون ببسالة، وحلت الهزيمة بجيش التتر، ثم عاد المسلمون مؤيَّدين منصورين، ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فلما جاء الليل أرسل الوزير ابن العلقمي جماعة من أصحابه المنافقين الخونة، فحبسوا مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم، وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل. وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته، فعاد هولاكو بجيشه وعسكر حول بغداد، فلما جاء الصباح دخل جيش التتر بغداد ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا الخليفة وابنه قتلة شنيعة، وأفسدوا أشدَّ الفساد.
ثم دعا هولاكو بابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، فوبخه على خيانَتِه لسيّده الذي وثِق به، ثم قال: "لو أعطيناك كلَّ ما نملك ما نرجو منك خيرًا، فما نرى إلا قتلَك"، فقتِل شرَّ قِتلة، وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43].
الخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيدًا للسيطرة عليها وإحراز النصر.
وصور الخيانة متعددة، منها ما هو متعلق بالحاكم لأمته، أو أعوان الحاكم، أو أفراد من الشعب لبلدهم. ولقد عهدت الحكومات لأجهزة مخابراتها بمهمة تتبع من تعتبرهم خونة، ولكن دائمًا كان سلاح الخيانة يخفى؛ لأن طبيعة استخدامه تفرض سريته؛ ولذلك فإنه سلاح ربما يكون أخطر وأهم من الأسلحة النووية, وأقل كلفة، ونتائجه حاسمه، وذلك ما أكده (تومي فران+) قائد الحملة العسكرية على العراق لوكالات الأنباء، ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/5/2003م؛ حيث ذكر أن عددًا من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا رشاوى من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب.
وجاء في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية أن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ كروز الذي تراوح قيمته ما بين مليون و 2.5 مليون دولار، وقال: "إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء"، وقال: "إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية". هذا فيما يتعلق بخيانة كبار القادة العسكريين العراقيين.
وعندما نقلب صفحات التاريخ سوف نجد صفحات أخرى سوداء للخيانة، منها ما فعله الوزير شاور في مصر مع الصليبيين عندما هجموا على مصر عام 564هـ وفتح لهم شاور البلاد، وجعلوه نائبًا لهم، وحرق الوزير شاور مصر إرضاء للإفرنج، وظلت النار تشتعل في مصر 54 يومًا كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، وقتل الخائن شاور بأمر حاكم مصر.
وكانت هناك مؤامرة للقوم مع اليهود ضد قوات القائد المسلم نور الدين محمود والقائد البطل صلاح الدين الأيوبي؛ فقد اتفق كل من مؤتمن الخليفة العاضد في مصر ومقدم العساكر على مكاتبة الصليبيين واستدعائهم إلى البلاد، وكتب رسالتهم يهودي، ولكن الله فضحهم، وقُبض على حامل الرسالة، وعند فتحها وجد فيها الآتي: "إن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية فإذا وصلوا خرج صلاح الدين بالعساكر إلى قتالهم، فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه على متخلفيهم يقتلهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين، فيأتونه من وراء ظهره والفرنج بين يديه، فلا يبقى لهم باقية"، ومما يؤكد ضلوع الحاكم العبيدي في المؤامرة أن صلاح الدين وهو يصفي أطراف المؤامرة فوجئ بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم، وكان العاضد يرقب المعركة من القصر. وذكره المؤرخ ابن كثير بالآتي: "كان شيعيًا خبيثًا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة".
قال حكيم: "نمرٌ مفترس أمامك خير من ذئب خائن وراءك".
عباد الله، ومع ذلك كله فإن الخونة يدفعون ثمنا باهضا جراء خيانتهم، ليس أعظمه حياتهم التي تبقى في مهب الريح وبلا قيمة عند من خانوه: الوطن والأمة، أو من خانوا لأجله: المستعمر والعدو، فقبل أن يدفع الخونة حياتهم ثمنا لخيانتهم يموتون آلاف المرات وهم يرون كرامتهم تنتهك وتداس بالأقدام من العدو الذي مدوا أيديهم إليه بالخيانة قبل الصديق الذي باعوه بثمن بخس. لنتصفح أوراق التاريخ ونسأل: ماذا كان مصير العملاء عبر التاريخ؟ هل مجد التاريخ عميلا واحدًا؟ هل أقامت الدول لعملائها نصبا تذكارية أو سمت شارعا أو مرحاضا عاما باسم أحد عملائها؟ هل احترمتهم شعوبهم أم أنهم رموا في م+لة التاريخ بعد انتهاء صلاحياتهم؟
العميل يبقى ذليلا قميئا ولو وضعوا على رأسه كل تيجان العالم، ويبقى صغيرا واطئا مهما نفخوا في أوداجه وجعلوه رئيسا أو وزيرا. ذات يوم أراد أحدهم أن ينافق نابليون، فنقل إليه أسرارا عسكرية حيوية عن استعدادات جيش بلاده، استقبلها نابليون بسرور بالغ، وقد ساهمت هذه الأسرار فيما بعد في تحقيق الانتصار له في الحرب، وبعد الانتصار، استقبل نابليون ذلك الرجل بجفاء، وأخذ كيسا من المال وألقاه إليه دون أن يترجل عن ظهر حصانه، فقال له المنافق: لا حاجة بي إلى المال، وأمنيتي هي أن أصافح الإمبراطور، فقال له نابليون: من يخون وطنه وينافق أعداءه على حساب شعبه له المال فقط، أما يد الإمبراطور فإنها لا تصافح إلا الأشراف المخلصين.
هل يتذكر الناس الآن اسم رئيس جمهورية فيتنام الجنوبية خلال الاحتلال الأمريكي لفيتنام؟ وما اسم قائد جيشه أو اسم وزير خارجيته أو اسم احد من وزرائه؟ لكن الجميع يتذكرون اسم الجنرال جياب وهوشيمِنه. هل يتذكر الناس من كان يحكم ليبيا إبان الاحتلال الإيطالي الفاشي؟ ولكن جميع العرب ومعظم المسلمين يتذكرون الشهيد عمر المختار.
جند الفرنسيون 250 ألف عميل ومتعاون في الجزائر، سمّوهم (الحركيون)، خدموا المحتلين الفرنسيين لعشرات السنين، هل يتذكر الناس الآن اسم زعيم تلك الحركة أو اسم أحد كبار المتعاونين معهم؟ ولكن كل العرب يتذكرون المجاهد عبد القادر الجزائري والمناضلين أحمد بن بلا وإخوانه.
هل يتذكر الناس الآن اسم رئيس كوبا عميل أمريكا عام 1959م؟ بينما الناس يتذكرون إلى الآن تشيكيفارا ويلبسون قمصان مطرزة بصوره.
إذن عباد الله، لن تعجز الأمة أن تعرف عدوها من اليهود والنصارى والمشركين، ولكن من الصعب عليها أن تعرف الخونة المنافقين لتلوّنهم وكذبهم واتباعهم كل طريق ملتوية وخسيسة، والله جل وعلا يقول: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.
هذا، وأسأل الله أن يكفي الأمّة شر الأشرار وكيد الفجار وشرّ طوارق الليل والنهار.
وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين.
وبعد: ولئن كان في الأمة صور كئيبة من خيانات الخائنين إلا أن في الأمة خيرا كثيرا وصفحات مشرقة يفخر المسلم بها ويفاخر، وهي كثيرة ولله الحمد، ولكن أكتفي بذكر صورتين منها:
1- الصورة الأولى والمشهد الرائع في مواجهة الخيانة هو مشهد الصحابي الجليل كعب بن مالك عندما تخلف عن غزوة تبوك، ولم يجد عذرًا يعتذر به عن تخلفه عن الغزو أمام رسول الله ، وقد نهى الرسول المسلمين عن الكلام مع كعب ومرارة بين الربيع وهلال بن أمية، ولبث كعب خمسين يومًا على هذا الحال حتى قال: تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي الأرض التي كنت أعرف، ثم يقول بعد تلك الأيام وما أشدها على النفس المؤمنة حين يذكر أنه كان يأتي رسول الله فأسلم ويقول في نفسه: أحرَّك رسول الله شفتيه برد السلام عليَّ أم لا؟ حتى جاء يوم فتسور حائط أبي قتادة ابن عمه وأحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه، فقلت له: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وأخذ يكررها مرتين وأبو قتادة ساكت حتى تركه وعينه تفيض من الدمع، وبينما هو على هذا الحال وهو يمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى جاء كعب، فدفع إليه كتابًا من ملك غسان، وكان كعب يجيد القراءة، فوجد في الكتاب: "أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة؛ فالحق بنا نواسِك". قال كعب حين قرأه: وهذا أيضًا من البلاء. وقال: فتيممت التنور فسجرته به. ثم لما أتم أربعين ليلة من الخمسين جاءه أمر رسول من رسول الله أن يعتزل امرأته، وكان الأمر يشمل أيضًا الصحابيين الآخرين، فلما أتم الخمسين ليلة جاءه البشير بالفرج من الله والتوبة. وفي كعب وصاحبيه نزل قول الله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118].
إن قصة كعب مثلٌ عظيم لمن تتزلزل قلوبهم في المحن ويخونون الصف المسلم طمعًا في متاع الدنيا الزائل، وقد كثر هؤلاء لكثرة المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية.
2- الصورة المشرفة الثانية هي للسلطان عبد الحميد آخر خلفاء الدولة العثمانية المسلمة.
فقد شهدت أيامه محنًا واضطرابات وضعفًا وديونًا في غمرة أحداث كثيرة كانت تصب في ضعف الخلافة حتى سميت بـ(الرجل المريض).
قام اليهود بمحاولة خسيسة مع السلطان، فأوفدوا إليه الثري اليهودي (قرّه صو)، وفي المقابلة قال (قره صو) للسلطان: "إني قادم مندوبًا عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين". فما أن أتم (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب، وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فارتمى المرافق على قدمي السلطان مقسمًا بعدم علمه، فالتفت السلطان إلى (قره صو) وقال له: "اخرج من وجهي يا سافل"، فأرسل إليه (قره صو) برقية تضمنت أن رفضك سيكلفك ممتلكاتك أنت شخصيًا. لم يهتز السلطان عبد الحميد، ولقد حاول اليهود مرة ثانية عن طريق (هرتزل) اليهودي الذي حاول رشوة السلطان مقابل امتيازات لليهود في فلسطين، فرفض السلطان في إباء وشموخ وعزة وكبرياء ندر أن نجدها في هذا الزمان، ولقد كتب (هرتزل) الموقف في مذكراته فقال: "ونصحني السلطان عبد الحميد أن لا أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له؛ بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني أن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون".
ولقد حاول اليهود مرة أخرى عن طريق ح+ الاتحاد والترقي (يهود الدونمة)، وقد ذكر السلطان تلك المحاولة في رسالة هامة لشيخه في مذكرات نسردها للعظة والتأمل والاستفادة التاريخية. يقول السلطان: "إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا عليَّ بأن أصادق على وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهبية إنجليزية، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعيًا؛ فقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين؛ لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أبدًا، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا، وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل أن ألطِّخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين" انتهى كلام السلطان عبد الحميد بصورة مشرقة عظيمة للصمود أمام الخيانة مهما كانت التضحيات.
إنه مثال واقعي للامتثال لأمر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واعرفوا عدوكم، واشكروا نعمة الله عليكم، فبالشكر تدوم النعم وتدفع النقم، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على سيدنا وحبيبنا محمد...
| |
|