molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: سبيل النجاة وطريق السعادة - أسامة بن عبد الله خياط السبت 22 أكتوبر - 6:55:35 | |
|
سبيل النجاة وطريق السعادة
أسامة بن عبد الله خياط
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإنَّ المرءَ لا يزالُ بخيرٍ ما اتقى الله، وخالفَ نفسَه وهواه، ولم تُشغِله دنياه عن أُخراه.
أيها المسلمون، حياةُ القلبِ وطُمأنينةُ النفس وسُمُوُّ الروحِ مطمَحُ كلِّ عاقلٍ، ومقصدُ كل لبيبٍ، ومُبتغَى كلّ أوَّاب، ومُنتهى أمل كل راغبٍ في حيازةِ الخيرِ لنفسه، ساعٍ إلى خَلاصها مِن أغلال الشقاء، واستنقاذها من ظلماتِ الحَيرة ومسالِكِ الخيبَة وأسباب الهلاك.
وإذا كان لكلِّ امرئٍ في بلوغِ ذلك وِجهةٌ هو مُولِّيها وجادَّةٌ يسلُكها فإنَّ المُوفَّقين من أُولي الألباب الذين يسيرون في حياتهم على هُدًى من ربهم واقتفاءٍ لأثر نبيِّهم لا يملِكون إلا أن يذكُروا -وهم يلعَقون الجراح، ويتجرَّعون مرارةَ الفُرقةِ وغُصَص التباغُض والتقاتُل- لا يملِكون إلا أن يذكُروا آياتِ الكتابِ الحكيم وهي تدلُّهم على الطريق وتقودُهم إلى النجاة حين تُذكِّرُهم بتاريخ هذه الأمة المُشرقِ الوضِيء، وتُبيِّنُ لهم كيفَ سمَت وعلَت وتألَّق نجمُها وأضاءَ منارُها، وكيف كان الرَّعيلُ الأوّل منها مُستضعَفًا مهيضَ الجناح، تعصِفُ به أعاصيرُ الباطل، وترميه الناسُ عن قَوسٍ واحدة، فآواه الله ونصرَه نصرًا عزيزًا مُؤزَّرًا، وأسبغَ عليه نعَمَه، وأفاضَ عليه البركات، ورزقَه من الطيِّبات، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26].
إنه إيواءٌ إلهيّ، وتأييدٌ ربَّانيّ منَ الله القويِّ القادر القاهِر الغالب على أمرِه، تأييدٌ مُحقِّقٌ وعدَه الذي لا يتخلَّفُ لهذه الأمة بالاستخلافِ في الأرض والتمكين، وتبديل خوفِها أمنًا إن هي آمنَت بالله وعمِلت الصالحات، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
ولا غَروَ أن يبلُغَ ذلك الرعيلُ الأوّل من التقدُّم والرُّقِيّ مَبلغًا لم يسبِقه إليه ولم يلحَق به أحدٌ عاش على هذه الأرض؛ لأنَّ الإيمانَ دليلُه، ولأنَّ الإسلامَ قائدُه، ولأنّ الشريعةَ المُباركة منهجُه ونظامُ حياته، فاستَحقَّ الخيرية التي كتبَها الله لمن آمنَ بهِ واتَّبع هُداه، وتبوَّأ مقامَ الشهادةِ على الناسِ يومَ القيامة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
وإنَّ آياتِ الكتابِ الحكيم لتُذكِّرهم أيضًا أنَّ الاستقامةَ على منهجِ الله واتباعَ رضوانِه وتحكيمَ شرعِه لا يكون أثرُه مُقتصِرًا على الحَظوةِ بالسعادةِ في الآخرة ونزول جنات النعيم فيها فحسب؛ بل يضمنُ كذلك التمتُّع بالحياة الطيبة في الدنيا، وتلك سنةٌ من سُنن الله في عباده لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال سبحانه: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 1 3].
فحين تكون حَيدةُ الخلق عن دينِ الله، والجَفوةُ بينهم وبينَ ربِّهم بالإعراضِ عن منهَجه؛ هنالك يقَع الخلَلُ، ويثور الاضطِرابُ المُفضِي إلى فَسادٍ وشرٍّ عظيم، عانَت من ويلاته الأمم من قبلنا، فحَلَّ الخِصامُ بينهم، واضطرَمت نارُ العداوةِ والبغضاءِ بعدما كانت المحبةُ والأُلفةُ تُظلُّهم بظِلالها، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].
وهو خللٌ يتجاوز فسادُه وتتّسعُ دائرتُه، فتشمَل الأرضَ والبيئةَ كلَّها، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
ذلك أنَّ الصلةَ وثيقةٌ بين الكونِ وبين ما نأتي وما نَذَر من أعمالٍ، فإن مشَت على سَنَنٍ قويم وطريقٍ مُستقيم بإدراكِ الغاية من خلق الإنسان، وتحقيقِ العبودية لله ربِّ العالمين، والمُسارَعة إلى مَرضاته، والاستقامةِ على منهجه؛ فإنَّ الله يُفيضُ عليهم من خزائنِ رحمته، ويُنزِّلُ عليهم بَركاتٍ من السَّماء، ويُفيءُ عليهم خيراتِ الأرض، كما عبَّر عن ذلك نوحٌ عليه السلام في دعوته لقومِه وحثِّه لهم على الإيمان بربهم والاستغفارِ لذنوبهم: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، وقال عزَّ اسمُه في شأن المُعذَّبين من أهل القرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وتلك مساكنُ وآثارُ الذين ظَلَموا أنفسَهم بنبذِ كتاب الله وراءَهم ظِهريًّا، واتخاذِهم أهواءَهم آلهةً مِن دون الله، واتِّباعهم ما أسخَط اللهَ، وكراهَتهم رضوانه؛ فكانت تلك الديارُ مشاهِدَ عِظةٍ وذكرَى لأولي الألباب، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45].
ولذا فإنَّ أُولي النُّهى لا يملِكون وهم يسمَعون نداءَ الله يُتلى عليهم في كتابه إلا أن يُصيخوا ويَستجِيبوا لله وللرسول ؛ إذ هي دعوةٌ تحيا بالاستجابة لها القلوب، القلوبُ التي لا حياةَ لها إلا بالإقبال على الله تعالى، وتحقيق العبودية له، ومحبته وطاعته، والحذر من أسباب غضبه، وبمحبَّة رسوله واتِّباع سنّتِه، والاهتداء بهَديِه، وتحكيم شرعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]. فإنّه سبحانه يحُول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، أي: فلا يستطيع أن يُؤمن ولا يكفر إلا بإذنه عز وجل.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" والنسائي وابن ماجه في "سننهما" بإسناد صحيح عن النواس بن سمعان أنّه قال: سمعتُ النبي يقول: ((ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإذا شاء أن يُزيغَه أزاغَه))، وكان يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، قال: ((والميزانُ بيد الرحمن يخفِضه ويرفعه)).
فاتقوا الله عباد الله، واستجيبوا لله وللرّسول، واذكروا أنَّ ربَّكم قد ضمِن لمن اتَّبع هُداه وسار على منهجه أن يُؤتِيَه المجدَ ويُبلِّغه الرِّفعةَ التي تَصبُو إليها نفسُه، فقال عزَّ اسمُه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]، وقال سبحانه: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]، أي: شرفكم ومجدُكم ومكارمُ أخلاقكم ومحاسن أعمالكم وفوزُكم في الدنيا والآخرة.
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه، وبسنّة نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنبٍ، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ المؤمنَ حين يقفُ على مُفترَق طرقٍ، وحين تُعرضُ عليه شتَّى المناهِج؛ لا تعتريهِ حيرةٌ ولا يُخالِجه شكٌّ في أنَّ منهج ربِّه الأعلى وطريقَه هو سبيلُ النجاة وطريقُ السعادة في حياتِه الدنيا ويومَ يقوم الناس لرب العالمين.
وفي آياتِ الكتابِ الحكيمِ مما قصَّ الله علَينا نبأه في شأنِ أبينا آدمَ عليه السلام حين أُهبِط من الجنّة بتأثير إغواء الشيطان وتزيين المعصية له أوضَحُ الأدلة على ذلك. فأمَّا المُتِّبعُ هُدى ربِّه فهو السعيدُ حقًّا، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، وأما المُعرِضُ عن ذكرِ ربِّه بمخالفةِ أمرِه وأمرِ رسوله وبالأخذِ من غيرِه فعاقبةُ أمره خُسرًا ومعيشة ضنكًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124-126].
إنها معيشةٌ يُصوِّر واقعَها الإمامُ الحافظُ ابن كثيرٍ رحمه الله بقوله: "أي: ضنكًا في الدنيا؛ فلا طمأنينةَ له، ولا انشراحَ لصدرِه؛ بل صدرُه ضيِّقٌ حرِجٌ لضَلاله وإن تنعَّم ظاهرُه، ولبِسَ ما شاءَ، وأكلَ ما شاءَ، وسَكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يخلُص إلى اليقينِ والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ، فلا يزالُ في ريبه يتردَّد، فهذا من ضنك المعيشة" اهـ. أعاذنا الله منها، ومن العمى بعد الهدى، وجعلنا ممن أنابَ إلى ربِّه وتابَ إليه فهَدى.
فاتقوا الله عبادَ الله، واتَّخذوا مما جاءكم من ربِّكم من البينات والهُدى خيرَ عُدَّةٍ تبلغُون بها سعادةَ الآخرة والأولى.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورى...
| |
|
haddache mohammed عضو غير نشط
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 1 تاريخ التسجيل : 21/04/2013
| موضوع: رد: سبيل النجاة وطريق السعادة - أسامة بن عبد الله خياط الأحد 21 أبريل - 5:21:44 | |
| - molay كتب:
سبيل النجاة وطريق السعادة
أسامة بن عبد الله خياط
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإنَّ المرءَ لا يزالُ بخيرٍ ما اتقى الله، وخالفَ نفسَه وهواه، ولم تُشغِله دنياه عن أُخراه.
أيها المسلمون، حياةُ القلبِ وطُمأنينةُ النفس وسُمُوُّ الروحِ مطمَحُ كلِّ عاقلٍ، ومقصدُ كل لبيبٍ، ومُبتغَى كلّ أوَّاب، ومُنتهى أمل كل راغبٍ في حيازةِ الخيرِ لنفسه، ساعٍ إلى خَلاصها مِن أغلال الشقاء، واستنقاذها من ظلماتِ الحَيرة ومسالِكِ الخيبَة وأسباب الهلاك.
وإذا كان لكلِّ امرئٍ في بلوغِ ذلك وِجهةٌ هو مُولِّيها وجادَّةٌ يسلُكها فإنَّ المُوفَّقين من أُولي الألباب الذين يسيرون في حياتهم على هُدًى من ربهم واقتفاءٍ لأثر نبيِّهم لا يملِكون إلا أن يذكُروا -وهم يلعَقون الجراح، ويتجرَّعون مرارةَ الفُرقةِ وغُصَص التباغُض والتقاتُل- لا يملِكون إلا أن يذكُروا آياتِ الكتابِ الحكيم وهي تدلُّهم على الطريق وتقودُهم إلى النجاة حين تُذكِّرُهم بتاريخ هذه الأمة المُشرقِ الوضِيء، وتُبيِّنُ لهم كيفَ سمَت وعلَت وتألَّق نجمُها وأضاءَ منارُها، وكيف كان الرَّعيلُ الأوّل منها مُستضعَفًا مهيضَ الجناح، تعصِفُ به أعاصيرُ الباطل، وترميه الناسُ عن قَوسٍ واحدة، فآواه الله ونصرَه نصرًا عزيزًا مُؤزَّرًا، وأسبغَ عليه نعَمَه، وأفاضَ عليه البركات، ورزقَه من الطيِّبات، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26].
إنه إيواءٌ إلهيّ، وتأييدٌ ربَّانيّ منَ الله القويِّ القادر القاهِر الغالب على أمرِه، تأييدٌ مُحقِّقٌ وعدَه الذي لا يتخلَّفُ لهذه الأمة بالاستخلافِ في الأرض والتمكين، وتبديل خوفِها أمنًا إن هي آمنَت بالله وعمِلت الصالحات، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55].
ولا غَروَ أن يبلُغَ ذلك الرعيلُ الأوّل من التقدُّم والرُّقِيّ مَبلغًا لم يسبِقه إليه ولم يلحَق به أحدٌ عاش على هذه الأرض؛ لأنَّ الإيمانَ دليلُه، ولأنَّ الإسلامَ قائدُه، ولأنّ الشريعةَ المُباركة منهجُه ونظامُ حياته، فاستَحقَّ الخيرية التي كتبَها الله لمن آمنَ بهِ واتَّبع هُداه، وتبوَّأ مقامَ الشهادةِ على الناسِ يومَ القيامة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
وإنَّ آياتِ الكتابِ الحكيم لتُذكِّرهم أيضًا أنَّ الاستقامةَ على منهجِ الله واتباعَ رضوانِه وتحكيمَ شرعِه لا يكون أثرُه مُقتصِرًا على الحَظوةِ بالسعادةِ في الآخرة ونزول جنات النعيم فيها فحسب؛ بل يضمنُ كذلك التمتُّع بالحياة الطيبة في الدنيا، وتلك سنةٌ من سُنن الله في عباده لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال سبحانه: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 1 3].
فحين تكون حَيدةُ الخلق عن دينِ الله، والجَفوةُ بينهم وبينَ ربِّهم بالإعراضِ عن منهَجه؛ هنالك يقَع الخلَلُ، ويثور الاضطِرابُ المُفضِي إلى فَسادٍ وشرٍّ عظيم، عانَت من ويلاته الأمم من قبلنا، فحَلَّ الخِصامُ بينهم، واضطرَمت نارُ العداوةِ والبغضاءِ بعدما كانت المحبةُ والأُلفةُ تُظلُّهم بظِلالها، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].
وهو خللٌ يتجاوز فسادُه وتتّسعُ دائرتُه، فتشمَل الأرضَ والبيئةَ كلَّها، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
ذلك أنَّ الصلةَ وثيقةٌ بين الكونِ وبين ما نأتي وما نَذَر من أعمالٍ، فإن مشَت على سَنَنٍ قويم وطريقٍ مُستقيم بإدراكِ الغاية من خلق الإنسان، وتحقيقِ العبودية لله ربِّ العالمين، والمُسارَعة إلى مَرضاته، والاستقامةِ على منهجه؛ فإنَّ الله يُفيضُ عليهم من خزائنِ رحمته، ويُنزِّلُ عليهم بَركاتٍ من السَّماء، ويُفيءُ عليهم خيراتِ الأرض، كما عبَّر عن ذلك نوحٌ عليه السلام في دعوته لقومِه وحثِّه لهم على الإيمان بربهم والاستغفارِ لذنوبهم: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، وقال عزَّ اسمُه في شأن المُعذَّبين من أهل القرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
وتلك مساكنُ وآثارُ الذين ظَلَموا أنفسَهم بنبذِ كتاب الله وراءَهم ظِهريًّا، واتخاذِهم أهواءَهم آلهةً مِن دون الله، واتِّباعهم ما أسخَط اللهَ، وكراهَتهم رضوانه؛ فكانت تلك الديارُ مشاهِدَ عِظةٍ وذكرَى لأولي الألباب، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45].
ولذا فإنَّ أُولي النُّهى لا يملِكون وهم يسمَعون نداءَ الله يُتلى عليهم في كتابه إلا أن يُصيخوا ويَستجِيبوا لله وللرسول ؛ إذ هي دعوةٌ تحيا بالاستجابة لها القلوب، القلوبُ التي لا حياةَ لها إلا بالإقبال على الله تعالى، وتحقيق العبودية له، ومحبته وطاعته، والحذر من أسباب غضبه، وبمحبَّة رسوله واتِّباع سنّتِه، والاهتداء بهَديِه، وتحكيم شرعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]. فإنّه سبحانه يحُول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، أي: فلا يستطيع أن يُؤمن ولا يكفر إلا بإذنه عز وجل.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" والنسائي وابن ماجه في "سننهما" بإسناد صحيح عن النواس بن سمعان أنّه قال: سمعتُ النبي يقول: ((ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإذا شاء أن يُزيغَه أزاغَه))، وكان يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، قال: ((والميزانُ بيد الرحمن يخفِضه ويرفعه)).
فاتقوا الله عباد الله، واستجيبوا لله وللرّسول، واذكروا أنَّ ربَّكم قد ضمِن لمن اتَّبع هُداه وسار على منهجه أن يُؤتِيَه المجدَ ويُبلِّغه الرِّفعةَ التي تَصبُو إليها نفسُه، فقال عزَّ اسمُه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]، وقال سبحانه: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]، أي: شرفكم ومجدُكم ومكارمُ أخلاقكم ومحاسن أعمالكم وفوزُكم في الدنيا والآخرة.
نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه، وبسنّة نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنبٍ، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ المؤمنَ حين يقفُ على مُفترَق طرقٍ، وحين تُعرضُ عليه شتَّى المناهِج؛ لا تعتريهِ حيرةٌ ولا يُخالِجه شكٌّ في أنَّ منهج ربِّه الأعلى وطريقَه هو سبيلُ النجاة وطريقُ السعادة في حياتِه الدنيا ويومَ يقوم الناس لرب العالمين.
وفي آياتِ الكتابِ الحكيمِ مما قصَّ الله علَينا نبأه في شأنِ أبينا آدمَ عليه السلام حين أُهبِط من الجنّة بتأثير إغواء الشيطان وتزيين المعصية له أوضَحُ الأدلة على ذلك. فأمَّا المُتِّبعُ هُدى ربِّه فهو السعيدُ حقًّا، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، وأما المُعرِضُ عن ذكرِ ربِّه بمخالفةِ أمرِه وأمرِ رسوله وبالأخذِ من غيرِه فعاقبةُ أمره خُسرًا ومعيشة ضنكًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124-126].
إنها معيشةٌ يُصوِّر واقعَها الإمامُ الحافظُ ابن كثيرٍ رحمه الله بقوله: "أي: ضنكًا في الدنيا؛ فلا طمأنينةَ له، ولا انشراحَ لصدرِه؛ بل صدرُه ضيِّقٌ حرِجٌ لضَلاله وإن تنعَّم ظاهرُه، ولبِسَ ما شاءَ، وأكلَ ما شاءَ، وسَكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يخلُص إلى اليقينِ والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ، فلا يزالُ في ريبه يتردَّد، فهذا من ضنك المعيشة" اهـ. أعاذنا الله منها، ومن العمى بعد الهدى، وجعلنا ممن أنابَ إلى ربِّه وتابَ إليه فهَدى.
فاتقوا الله عبادَ الله، واتَّخذوا مما جاءكم من ربِّكم من البينات والهُدى خيرَ عُدَّةٍ تبلغُون بها سعادةَ الآخرة والأولى.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورى...
| |
|
must58 مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 7422 تاريخ التسجيل : 10/07/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1450/1450)
| موضوع: رد: سبيل النجاة وطريق السعادة - أسامة بن عبد الله خياط الثلاثاء 7 مايو - 14:44:18 | |
| | |
|
العبيني عضو جديد
البلد : الأردن الجنس : عدد المساهمات : 6 تاريخ التسجيل : 25/08/2014 العمر : 69 الموقع : ababneh . net
| موضوع: رد: سبيل النجاة وطريق السعادة - أسامة بن عبد الله خياط الثلاثاء 26 أغسطس - 1:44:09 | |
| طرح متميز وفي غاية الأهمية بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك دمت بحفظ الله | |
|