molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الدين النصيحة - أسامة بن عبد الله خياط السبت 22 أكتوبر - 6:50:24 | |
|
الدين النصيحة
أسامة بن عبد الله خياط
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، وابتَغوا إليه الوسيلةَ وراقِبوه؛ فإنَّ السعيد من اتَّقى الله وأقبل على مولاه فأكرمه ونعَّمه واجتباه.
أيُّها المسلمون، إنَّ من أجلِّ نِعَم الله التي أسبغها على عباده بعد نعمةِ الهدايةِ إلى دين الإسلام ما هيَّأ لهم سبحانه من أولئك النّاصحين الصّادقين من إخوانهم في الدّين الذين يُسدون إليهم أعظمَ الجميل حين يُذكِّرونهم بالله فيُحسِنون التذكير، وحين يُبصِّرونهم بخفِيِّ عُيوبهم فيُحكِمون التَّبصير، وحين يقِفونهم على مَواطنِ العِلَل وأسبابِ الآفات وبواعِث الهلَكات، فيبلُغون في ذلك أوفَر حظٍّ من التَّوفيق.
وإذا كان مَعنى النصيحة حيازَةَ الحظِّ من الخَير للمنصوحِ مِن كلّ خيرٍ عاجلٍ أو آجِل، وأن أصلَ النصح الصفاءُ والخلوص؛ فإنّ قبول النصحِ والاحتفاءَ بالتّذكير سجِيَّةٌ جميلة ومنقبةٌ جليلة وخُلُقٌ كريم، يتبيَّنُ به كمالُ العقل ونُبل نفس وسلامة سريرة وصفاء طوِيَّة، فالنّقص محيطٌ بالبشر، لازِمٌ لهم، لا ينفكُّ عنهم، ولا يتمُّ تدارُك ذلك إلا بفَضل اللهِ وبرحمتِه، ثم بنُصحٍ صادِقٍ تحسُن به العُقبى وتكون به إلى الله الزُّلْفَى.
ولذا فقد أخبرَ رسولُ الهُدى عن عِظَم مَقامِ النُّصح في دين الله وعَن شرف منزلته في حديثٍ عظيمٍ هو من جوامع كلِمِه، فقال : ((الدِّين النَّصيحة، الدِّين النَّصيحةُ، الدِّين النَّصيحة))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله عز وجل، ولكتابه، ولرسولِه، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم)) أخرجه مسلم رحمه الله في "صحيحه" من حديث تميم الداريّ .
فأمَّا النصيحة لله -يا عباد الله- فتكون بتوحيده سبحانه في ربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائِه وصفاتِه، بالإيمان أنّه سبحانه الخالقُ الرّازق المُحيِي المميت الذي يُربِّي الخلائقَ بنعمته، فلا قيامَ لها بغيره، وأنّه على كلّ شيءٍ قدير، وأن كلَّ شيءٍ إليه فَقير، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15]، فلا حاجةَ به إلى أحدٍ من خلقه، وكلُّ الخلقِ فقراء إليه. وبالإيمان أيضًا أنّه المستحقُّ لصرف جميع أنواع العبادة له وحدَه سبحانه دون سواه؛ إذ لا معبودَ بحقٍّ إلا الله. وبالإيمانِ بما وصَف به نفسَه وما وصفَه بهِ نبيُّه مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيل، وأنّه لا نِدَّ له ولا سمِيَّ ولا شبيهَ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. وبالخضوعِ له ظاهرًا وباطنًا، وبتقديمِ حقِّه سبحانه، وبالرّغبة في محابِّه بفعل مراضيه، والرهبةِ من سخَطِه بترك معاصيه، وبالاجتهادِ في ردِّ العُصاةِ إليه.
وأمّا النصيحةُ لكتابه فبتعلُّمه وتعليمه والعملِ به وبما أنزل الله فيه، وبإقامة حروفِه، وحِفظ حدوده، وذبِّ تحريفِ الغالين عنه وانتحالِ المُبطِلين وتأويل الجاهلين.
وأمّا النصيحةُ لرسولهِ فمحبَّته وطاعته ونُصرته واتِّباع هديه وإحياءِ سنّته تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، وبالاقتداءِ به في أقواله وأفعالهِ، وتقديمِ هديِه على قولِ غيره كائنًا مَن كان، ونبذِ الابتداع في دينه.
وأمّا النصيحة لأئمَّة المسلمين فبإعانتهم على ما حُمِّلوا القيامَ به، وبتنبيهِهم عندَ الغفلة، وسدِّ خلَّتهم عند الهَفوة، وجمعِ الكلِمة عليهم، وردِّ القلوب النافرةِ إليهم. ومن جملة أئمَّة المسلمين الأئمَّة المجتهدون، ونُصحُهم ببثِّ علومهم، وإشاعةِ مناقبهم، وتحسين الظنّ بهم.
وأمّا النصيحة لعامّة المسلمين فبالشفقة عليهم، والسعيِ فيما يعود نفعُه عليهم، وبتعليمهم ما ينفعُهم، وكفّ الأذى عنهم، وأن يحبَّ الناصِحُ لهم ما يحبُّ لنفسِه، وأن يكرَه لهم ما يكره لنفسه.
ومما يدلُّ أيضًا على عِظَم مَقامِ النُّصح في الدِّين ولزومِه وتأكُّده وضرورةِ إشاعتِه بين أبناءِ المجتمع المسلمِ أنه صلواتُ الله وسلامه عليه كان يشرُطُه على من يُبايِعه على الإسلامِ، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن زيادِ بن علاقة أنه قال: سمعت جريرَ بنَ عبد الله يقول يومَ مات المغيرةُ بن شعبة: إني أتيتُ النبيَّ فقلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشَرَط عليَّ: ((والنُّصح)) أي: وعلى النُّصحِ لكلّ مسلم، فبايعتُه على هذا.
وعلى الع+ِ من ذلك -يا عباد الله- من أصمَّ أُذنَيْه عن سماعِ النُّصح، وأعرض عن التذكير، شأنَ كلَّ مُستكبرٍ قال الله في حقِّه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 206].
إنّه استكبارٌ على الله، وعُتُوٌّ عن أمرِه، جاء في كتابِ الله بيانُ عاقبته فيما قصَّ الله من أنباءِ مَن قد سَبق مِن الأمم الهالكة وما نزل بهم من بأسِ الله نتيجةَ إعراضهم عن نُصح المرسلين؛ ليكونَ عبرةً للمُعتبرين وذكرى للذاكرين وآيةً بيِّنةً على وَبال عاقبة كلِّ من حادَّ الله، وصدَّ عن سبيله، وعادَى أولياءَه، وأصمَّ أُذنَيْه عن سماعِ النُّصحِ، ولم يستجِب للتّذكير، بل تشبَّث بباطِله واتَّبع هواه وكان أمره فُرُطًا.
كما في خبر ثمود قومِ صالحٍ عليه السلام حين أصمُّوا آذانهم عن تذكيرِه وتحذيرِه، فقال في شأنهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 77-79]، وقال في شأنِ مدينَ قومِ نبيِّ الله شُعيب عليه السلام: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف: 90-93].
عبادَ الله، إنَّ النصيحةَ لن تكونَ بالغةً مبلغَها في التأثيرِ إلا حين يكونُ الناصحُ صادِقًا مخلِصًا للهِ في نُصحِه، عظيمَ الشفَقَةِ على خَلقِه، مُريدًا لهم الخيرَ بتجنيبهم أسبابَ الهَلَكة، دالاًّ لهم عَلَى سُبُل النّجاة، حكيمًا عليمًا بأولويَّات الأمور، فلا يُقدِّم ما حقُّه التَّأخير، ولا يُؤخِّر ما حقُّه التَّقديم، قادرًا على الموازنَة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضارّ، والعاجِلِ والآجِل، لا سيَّما في النَّوازِل، وحين يتعلَّق الأمر بقضايا الأمّةِ الكبرى، وما تعمُّ به البلوى وتعظُم آثارُه وتتَّسِع أبعادُه، وأن يأخذ نفسَه بالرِّفق في نُصحه وفي شأنه كله، فإنّ الرِّفقَ كما قال نبيُّ الرحمة صلوات الله وسلامه عليه: ((لا يكونُ في شأنٍ إلا زانَه، ولا نُزِع من شيءٍ إلا شانَه)) أخرجه مسلم في "صحيحه"، وفي "الصحيحين" من حديثِ عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ اللهَ رفيقٌ يحبُّ الرِّفق في الأمر كلِّه)). هنالك يكون للنُّصح طريقُه إلى النفوس، وسلطانُه على القلوب، وتبرأ به ذِمَّة الناصِح، وتقوم به الحُجَّة على المنصوح.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واتَّخذوا من النصيحةِ منهجًا وسبيلاً يتعيَّن سلوكُه لبلوغِ الحياةِ الطيِّبة في الدنيا والسعادة والفوزِ في الأخرى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 17، 18].
نفعني الله وإيَّاكم بهديِ كتابهِ، وبسنّةِ نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنبٍ، إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريدُ، أحمدُه سبحانَه، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهَ وحدَه لا شريكَ لَه، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله صاحِب النهجِ الراشد والرأي السديد، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، لقد صوَّر بعضُ السَّلف رضوان الله عليهم حقيقةَ الناصح الصّادق أبلغَ تصوير فقال: "اعلَم أنَّ من نصحَك فقد أحبَّك، ومن داهَنَك فقد غشَّك".
وهي كلمةٌ صادقةٌ مُعبِّرةٌ عن واقعٍ لا ريبَ فيه، فبالنُّصحِ يُعرَف الدّاء، ويُوصَف الدَّواء، فيَسلَم الجسد، وتنتفي العلَّة، وبالمُداهَنة تُستَر الآفات، وتُستبقَى العِلل، فما تزالُ بالجسَد حتى تُهلِكه. وبهذا يستبِين المُحِبُّ على الحقيقةِ من الغاشّ، ويُعلَم الموضِعُ الذي يجِب أن تُحِلَّه منها القلوب والأنفُس والعقول.
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلقِ الله محمَّد بنِ عبدِ الله...
| |
|