molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: من حسن الإسلام - أسامة بن عبد الله خياط السبت 22 أكتوبر - 6:34:13 | |
|
من حسن الإسلام
أسامة بن عبد الله خياط
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله؛ فتقوَى الله خيرُ زادٍ في الحياةِ الدنيَا ويومَ يقومُ الأشهاد.
أيُّها المسلمون، إنَّ حرصَ المرء على سلامةِ دينه وحسنِ إسلامِه وصحّةِ إيمانه دليلٌ ظاهرٌ وآيةٌ بيِّنة وبُرهانٌ شاهدٌ على رجاحَةِ عقلِه واستقامةِ نهجِه وكمالِ توفيقِه؛ فدينُ المسلم ـ يا عبادَ الله ـ هو دليلُه وقائدُه إلى كل سعادةٍ في حياتِه الدّنيا وإلى كلِّ فوزٍ ورِفعةٍ في الآخرةِ بما جاء فيه من البيِّنات والهدى الذي يستعصِم به من الضّلال وينأَى به عن سُبُل الشقاء ومسالِكِ الخُسران.
ولقد أرشد رسول الله ـ وهو الحريص على كلّ خير لأمّته الرؤوفُ الرحيم بها ـ إلى أدبٍ جامع وخَصلةٍ شريفة وخُلُقٍ كريم، يحسن به إسلامُ المرء، ويبلغ به الغايةَ من رضوان الله، وذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ وابن ماجه في سننهما وابن حبان في صحيحه بإسنادٍ حسنٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسول الله أنّه قال: ((مِن حسنِ إسلام المرء تَركُه ما لا يعنيه))[1].
وهذا الحديث ـ كما قال الإمام ابنُ عبد البر رحمه الله ـ من الكلام الجامعِ للمعاني الكثيرةِ الجليلَة في الألفاظِ القليلة، وهو ممّا لم يقُله أحدٌ قبلَه ؛ لأنَّ مَن حَسُن إسلامُه ترَكَ ما لا يعنيه من الأقوالِ والأعمال؛ إذِ الإسلامُ يقتضي فعلَ الواجباتِ وتركَ المحرَّمات، وإذا حسُن الإسلامُ استلَزم ذلك تركَ ما لا يعني من المحرَّمات والمشتَبِهات والمكروهاتِ وفضولِ المباحاتِ، وهي القدرُ الزائدُ على الحاجة منها، فإنَّ هذا كلَّه لا يعني المسلمَ إذا كمُل إسلامُه وبلغ درجةَ الإحسان الذي أوضَح رسولُ الهدى حقيقتَه في حديثِ سؤال جبريلَ عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: ((أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكُن تراه فإنه يراك)) أخرجه مسلمٌ في صحيحِه من حديث أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه[2].
ومَن عبَد الله على استحضارِ قُربه من ربِّه أو قُربِ ربّه منه فقد حسُن إسلامه، ولزِم من ذلك أن يترُك كلَّ ما لا يعنيه في الإسلام، واشتغل بما يعنيه من صحّة اعتقادٍ وكمالِ إيمان وصلاحِ عمَل وطلَب ما هو من ضروراتِ معاشِه لا قيامَ لحياته بدونِه من ألوانِ المباحات. وعلى الع+ من ذلك من أضاع نفائسَ الأوقات فيما لم تُخلَق له باشتغالِه بما لا يعنيه، فانصرف عمّا ينفعه ويرتفِع بمقامه ويبلُغ به صحيحَ الغاياتِ وشريفَ المقاصدِ وكريم المنازِل، فخسِر هنالك خسرانًا مبينًا.
ألا وإنَّ من اشتغالِ المرء بما لا يعنيه تعلُّمَ ما لا يُهمّ من العلوم وتركَ الأهمّ منها ممّا فيه صلاحُ قلبه وت+يةُ نفسه ونفعُ إخوانه ورفعُ شأن وطنِه ورقيّ أمته.
ومنه أيضا عدمُ حفظ اللّسان عن لغوِ الكلام وعن تتبّع ما لا يُهمّ ولا ينفعُ تتبّعُه من أخبار الناس وأحوالهم وأموالهم ومقدارِ إنفاقهم وادِّخارهم وإحصاءِ ذلك عليهم والتنقيبِ عن أقوالهم وأعمالهم داخلَ دورِهم وبين أهليهم وأولادِهم بغير غَرضٍ شرعيٍّ، سوَى الكشف عما لا يعنيه من خاصّ شؤونهم وخفِيِّ أمورهم.
ومن ذلك أيضًا ـ يا عباد الله ـ تكلُّمُ المرء فيما لا يحسن ولا يتقِنه مما لم يُعرَف له اختصاصٌ فيه ولا سابق إلمامٍ وخبرة به، وما ذلك إلا لطَلب التسلّي وإزجاء الوقتِ وإضاعتِه في تصدُّر المجالسِ وصَرف الأنظارِ إليه، وقد يخرُج به ذلك إلى الخوضِ فيما لا يجوز الخوضُ فيه من أحاديثِ الفواحشِ والشَّهوات ووصفِ العوراتِ وقذف المحصناتِ المؤمنات الغافِلات ونشرِ قالةِ السوء وبثِّ الشائعات والأكاذيب والأخبارِ المفترَيَات. وقد يجتَمع إلى ذلك ولعٌ بما يسمَّى بالتَّحليلات والتوُّقعات المبنيّةِ في غالبها على الظنون والأوهام والمجازفات والجرأةِ على الباطلِ بتصويرِه في صورةِ الحقّ، وكلُّ ذلك مما لا يصحّ تتبّعُه، ولا الخوض فيه، ولا الاستنادُ إليه، ولا الاغترارُ به، ولا العملُ بمقتضاه.
ألا وإنَّ مما يعين على تركِ المرء ما لا يعنيه تذكُّرَ أن الواجباتِ أكثرُ من الأوقات، وأنَّ العمُر قصير كما أخبر بذلك رسول الله في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ وابن ماجه في سننهما والحاكمُ في مستدرَكِه بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرةَ وأنسٍ رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((أعمارُ أمَّتي ما بين السّتّين إلى السبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك))[3]. فمثل هذا العمُر الذي لا يكاد يتَّسع لما يلزم ويجِب أفيَتَّسع للفضول وما لا يعني؟! والمرءُ أيضا مسؤول عن عمُره: فيم أفناه؟ كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذيّ في جامعه بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي بَرزةَ الأسلميِّ رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه" ما فعل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه؟))[4]. وما يلفِظ الإنسان من قولٍ إلا وهو مسطَّرٌ في صحائِفه مجزيٌّ به؛ ليعلمَ أن للكلمة مسؤوليةً وتبِعةً كما قال عز من قائل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16-18].
وظاهر الآية ـ كما قال الإمام ابن كثير رحمه الله ـ أن الملك يكتُب كلَّ شيء من الكلام، ويؤيِّده عمومُ قوله سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ، فهو شامل لكلّ قول. وقد أخرج مالك في الموطّأ وأحمد في مسندِه والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ صحيحٍ عن عَلقمةَ الليثيِّ عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغَت يكتُب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنَّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمةِ من سَخطِ الله تعالى ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغت يكتُب الله عليه بها سخطَه إلى يوم يلقاه))، فكان علقمةُ الليثي رحمه الله يقول: كم من كلامٍ قد منعَنيه حديثُ بلال بن الحارث[5]، أي: هذا الحديث وما فيه من وعيد.
أمّا حكم التصدُّر وصرفِ الأنظار فهو مقصودٌ ذميم وخصلةٌ مرذولةٌ، لا يجتني من بُلِي بها سوَى المقتِ من الله ومن الذين آمنوا.
فاتّقوا الله عباد الله، واعملوا على الاقتداءِ بالصفوةِ من عباد الرحمن في تركِ ما لا يَعني من الأقوال والأعمال، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
نفعني الله وإياكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنب، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2317)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (3976)، صحيح ابن حبان (229)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه"، ثم أخرجه من طريق علي بن الحسين مرسلا وقال: "وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي نحو حديث مالك مرسلا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، وعلي بن حسين لم يدرك علي بن أبي طالب"، وممن رجح إرساله أحمد وابن معين والبخاري والدارقطني وابن رجب، انظر: جامع العلوم والحكم (1/287-288).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).
[3] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3550)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4236)، مستدرك الحاكم (3598)، وهو عندهم جميعا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقط، وأخرجه أيضا أبو يعلى (5990)، والبيهقي في الكبرى (3/370)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (2980)، والحاكم، وحسنه ابن حجر في الفتح (11/240)، وهو في السلسلة الصحيحة (757).
[4] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2417)، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
[5] موطأ مالك (1848)، مسند أحمد (3/469)، سنن الترمذي: كتاب الزهد (2319)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (3969)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يهدِي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم، أحمده سبحانه وهو البرُّ الرؤوف الرّحيم، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله صاحب النهج الراشد والخلق القويم، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أفضلَ صلاةٍ وأتمّ تسليم.
أمّا بعدُ: فيا عبادَ الله، نُقِل عن الحسنِ البصريِّ رحمه الله قوله: "مِن علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغلَه فيما لا يعنيه"[1].
فعلى العاقل الذي يرجو الله والدارَ الآخرة إذًا أن يكونَ مقبلاً على شأنه حافظًا للسانه بصيرًا بزمانه، وأن يعُدَّ كلامه من عمله؛ فإنّ من عَدَّ كلامَه من عملِه قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه؛ ذلك أنّ أكثر ما يُقصَد بترك ما لا يعني ـ كما قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله ـ حِفْظ اللسان عن لغْو الكلام، وحسبُه ضررًا أن يشغلَ صاحبه عن ألوانٍ كثيرةٍ من الخير الذي يسمُو به مقامُه ويعلو به قدرُه وتشرُف به منزلته وتطيبُ به حياتُه وتحسُن به عاقبته.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرِصوا على ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم.
واذكُروا على الدوام أن الله تعالى قد أمَركم بالصلاةِ والسلام على خاتم النبيِّين وإمامِ المرسلين ورحمةِ الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائرِ الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنّا معَهم بعفوكَ وكرمك وإحسانك يا خير ما تجاوَز وعفَا.
اللّهمّ أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين وسائرَ الطغاةِ والمفسِدين، وألِّفْ بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحقّ يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابَك وسنّةَ نبيّك محمّدٍ وعبادَك المؤمنين المجاهِدين الصادقين...
[1] انظر: التمهيد (9/200)، وجامع العلوم والحكم (ص116). ونُسب هذا الكلام للجنيد كما في صفة الصفوة (2/418).
| |
|