molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: وما جعل عليكم في الدين من حرج - أسامة بن عبد الله خياط الجمعة 21 أكتوبر - 5:41:05 | |
|
وما جعل عليكم في الدين من حرج
أسامة بن عبد الله خياط
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتَّقوا الله الذي خلَقكم ورزَقكم، وأسبَغ عليكم نِعَمه ظاهرةً وباطِنة، وراقِبوه واذكُروا وقوفَكم بين يديه، يَوْمَ يَنظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
أيها المسلمون، طابَعُ هذا الدِّين وسِمَتُه التي يتَّسِم بها اليُسرُ ورفع الحرَج عن الأمّة ووضع الآصار والأغلال عن كاهِلها؛ ليقطَعَ بذلك المعاذير، وليسُدَّ أبوابَ التنطُّع ويغلِق المسالكَ الموصلةَ إليه، ويحولَ دون الأسباب الباعِثةِ عليه، لئلاَّ يكبِّل المرء نفسه، فيحجِّرَ واسعًا أو يسقِطَ ما رخَّص له ربُّه فيه، كما قال عزّ اسمه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
وقد جاءَت هذه الآيةُ في أعقابِ البيانِ القرآنيّ لأحكام التطهُّر من الحدَثَين الأصغَرِ والأكبر، بعد الإرشاد إلى مشروعيّة التيمُّم عند تعذُّر استعمالِ الماء أو فَقده، إمعانًا في التيسِير على المكلَّفين ورفعِ الحرج عنهم، وإشعارًا بوجود الرّخصة عند تحقُّق المشقة. ولئن كان نزولُ هذه الآية عقِبَ تشريع هذا الحُكم مشعِرٌ بالتقييد وعدمِ الإطلاق ـ أي: أنَّ رفعَ الحرَجِ مقصورٌ على الأحكام الواردة فيها ـ إلاَّ أنَّ الحقَّ أنها عامّةٌ مستغرِقة كلَّ أحكام الدين، يؤيِّد ذلك قولُه سبحانه في الآيةِ الأخرى في سورة الحجّ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فهي رافِعة للقيد المتبادِرِ إلى الأذهان في الآية الأولى.
وكلا الآتَين ـ يا عبادَ الله ـ تلمَس من المسلم وجدانَه، وتخالط بشاشةَ قلبِه، وتمتزِج بأجزاء نفسِه، وتشعِرُه بعظيم فضلِ ربِّه عليه وكريم رحمتِه به وجميل إحسانِه إليه، حيث جعَل له طريقَ السعادة مذَلَّلاً وسبيلَ النجاح ممهَّدًا، لا يرهِقُه سلوكُه من أمرِه عُسرًا، على النّقيض من حالِ بني إسرائيل الذين أثقَلَت كواهِلَهم الآصار والأغلالُ التي كانت عليهم في شريعتِهم، كتحريمِ الأكل من الغنائم وقتل النفس الآثمة في التوبة وقرضِ النّجاسة من الثياب، وما ذلك إلاَّ لفضل هذه الأمّةِ المرحومَةِ التي جعَلَها الله وسَطًا بين الأمَمِ كما قال عزّ من قائل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا الآية [البقرة:143].
والوسَط كما قال العلاّمة ابنُ كثير رحمه الله: "الخِيار والأجود، كما يقال: قرَيش أوسَط العرب نَسبًا ودارًا أي: خيرُها، وكان رسول الله وسطًا في قومه، أي: أشرفَهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطَى التي هي أفضلُ الصلوات وهي العصر كما ثبَت في الصِّحاح وغيرها. ولما جعَل الله هذه الأمّةَ وسطًا خصَّها بأكملِ الشرائع وأقوم المناهج وأوضحِ المذاهب" انتهى كلامه يرحمه الله[1].
ورَفعُ الحرَج عن هذه الأمّة المسلِمة ـ يا عباد الله ـ ملائمٌ لفضلها وعدلِ شريعتها وعمومِ رسالة نبيِّها التي هي خاتمةُ الرسالات، مناسبٌ لبقاء دينِها وظهورِه على الدّين كلِّه كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [التوبة:33]، فهو لِذا نهجٌ ربّانيّ عامٌّ شامل صالحٌ للبشر كافّةً مهما تبايَنَت درجةُ رقِيِّهم أو اختلفت مراتِب حضارتهم، نهجٌ لا تشتَبِه فيه السّبُل ولا تلتوي فيه المسالك، يسَّر الله للأمّة فيه اتِّباعه وأوضح لهم معالمَه .
وإنَّ لرَفعِ الحرجِ في الدين أمثِلةً بيِّنة وشواهدَ واضحة، منها إباحةُ التيمُّم عند فَقد الماء وعند التأذِّي باستعماله لمرضٍ ونحوه ومنها إباحةُ الصلاة قاعِدًا للعاجز عن القيام، ومنها إباحة الفِطر للمسافر والمريض والحامِل والمرضِع، ومنها قَصر الصلاة الرباعيّة والجَمع بين الصلاتين للمسافِر وسقوط الصلاة عن الحائِض والنّفَساء، ومنها عدمُ وجوب الحجّ على من لم يستطع إليه سبيلاً، ومنها إباحةُ الأكل من الميتَةِ للمضطرّ الذي أشرف على الهلاكِ وليس عنده ما يسدّ رَمَقه، على تفصيلاتٍ لهذا كلِّه مبسوطةٍ في مواضعها في كتُب أهل العلم، إلى غيرِ ذلك من الأمثلة ممّا يدخل في إطارِ التيسير ويتِمّ به رفعُ الحرج عن الأمة، فيكون المصير إليه أخذًا برخصةِ الله لعباده وتجافِيًا عن الحرَج ودَفعًا للعَنَت، وتلك قاعدةٌ عامّة وأصل يتفرَّع عنه حشدٌ وافِر من الفروع في العباداتِ والمعاملات، وكلُّها دائِر في نطاقِ رفع الحرج وسلوك سبيلِ التيسير كما أشار إليه سبحانه في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ [البقرة:185].
ومِن مِشكاة النبوَّة قول رسول الله في الحديث الذي أخرجَه الشيخان في صحيحيهِما عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشّروا ولاَ تنفِّروا))[2]، وفي الصَّحيحَين أيضًا عن عائشةَ رضي الله عَنها أنها قالت: ما خُيِّر رسولُ الله بين أمرَين إلاّ اختَارَ أيسَرَهما ما لم يَكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناسِ عنه. الحديث[3].
غيرَ أنَّ لتحديد المشقَّة التي تجلِب التيسير ضابطًا شرعيًّا يجِب اعتباره، إذ ليس كلُّ جَهدٍ يُعَدُّ مشقّةً، وليس كلُّ مَرضٍ يُبيح الأخذَ برخصة الفطر، وليس كلُّ جوعٍ يرخَّص معه في أكل لحمِ الميتة كما يظنّ بعض الناس، بل المشقَّة نوعان:
مشقّةٌ معتادة لا تُعتَبَر في العرفِ السليم من المشقّات، كجهد العامِل في نهارِ الصّوم والوَعكَةِ العابِرة المحتَمَلة والجوعِ المؤقَّت لظرفٍ طارئٍ لا إشرافَ فيه على الهَلاك، فكلُّ ذلك وأمثاله لا يعتَبَر عُسرًا وحرَجًا يُراد رفعُه؛ ولذا فإنَّ الشارع لا يقصدُ إلى رفع ما كان من هذا القبيل المعتادِ، إذ لا يخلو كلُّ عملٍ عن مشقّة حتى في ضروراتِ الحياة من الأكل والشّربِ ونحوهما.
أمّا النوع الثاني فهو المشقَّة الزائدةُ عن المعتاد حتى تضيقَ بها الصدور وتستنفدَ الجهود ويكون لها الأثر السيِّئ في نفس المرء أو ماله، وربما أفضَت به إلى الانقطاع عن كثيرٍ من الأعمال النّافعَة التي ي+و بها عملُه ويعظم بها رصيدُه من الخير في مختلفِ ضُروبِه، فهذه المشقَّة هي التي منَّ الله على الأمّة برفعها عنهم تيسيرًا ورَحمة وتخفيفًا، وهي المقصودَة في نصوص الوحيَين.
وصَفوةُ القول وغايتُه ومدارُه ـ يا عباد الله ـ إنما هو علَى هذه اللّمسةِ الحانية الرفيقةِ التي تملك على المسلم مشاعِرَه، وتوجِّهه إلى ربِّه الأعلى الكريم الرحيم الذي يربِّي عباده بما يشرَعه لهم، كما يربِّيهم بما يُنعم به عليهم، فيشرَع لهم من الشرائع المشتَمِلة على ألوان كثيرةٍ من التيسير وضروب شتَّى من رفع العنَت ما يغرس في قلوبهم حبَّه سبحانه وحبَّ دينه وكتابه ورسولِه صلوات الله وسلامه عليه، ذلك الحبّ الذي يورِثهم كمالَ الخضوع والإنابةِ إليه سبحانه وتمامَ التعظيم لأمرِه ونهيه ودوامَ الإقبال على طاعتِه بذكره وشكرِه وحسنِ عِبادته والنزولِ على حكمِه.
ألا وإنَّ رفع الحرجِ في الإسلام هو مزيّةٌ من أوضح مزايا هذا الدين، ومنقَبَة من أعظم مناقبِه، ومقصد من أجلّ مقاصدِه، فحريٌّ بدعاةِ الخير وحمَلَة مشاعل الهداية وأنصار الحقّ وورثة الأنبياء أن تعظُم عنايتُهم وتدأبَ جهودُهم في بيانِ هذا البابِ الجليل من أبوابِ الهدَى في أوساط المسلِمين وغيرهم، قيامًا بواجب البيانِ الذي أخذه الله على أهلِ العلم، وتأثُّمًا من الكِتمان، وذبًّا عن حياض هذا الدين، وذَودًا عن حوزَتِه؛ ليكونَ كما أراد الله له منارًا للمدِلِجين وضياء للسالكين ودليلاً للحائرين، ولِيكون في الأخذ به رفعُ الحرج والآصارِ والأغلال وإقامةُ معالم الحنيفيّة السمحةِ، وصدق الله إذ يقول: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].
نَفَعني الله وإيّاكم بهدي كتابِه وبسنة نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنّه كان غفَّارًا.
[1] تفسير القرآن العظيم (1/191).
[2] صحيح البخاري: كتاب العلم (69)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1734).
[3] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3560)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2327).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا يبلِّغنا رِضاه، أحمده سبحانه لا رَبَّ غيره ولا إلهَ سِواه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله وخِيرته من خلقه ومُصطفاه، اللّهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنَّ الأخذَ بما رخَّص الله لعبادِه وتفضَّلَ به عليهم ليس لأجل ما فيها من رفعٍ للحرج وتيسير على الأمّة فحسب، بل لأنَّ الأخذَ بها أمرٌ محبوب عند الله تعالى كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسندِه وابن خزيمةَ وابن حبّان في صحيحيهما والبيهقيّ في شعب الإيمان بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنّه قال: ((إنَّ الله تعالى يحِبّ أن تؤتَى رخصه كما يكرَه أن تؤتَى معصيته))[1]، وأخرج ابن خزيمةَ وابن حبان في صحيحيهما والبيهقيّ في سننه الكبرى بإسنادٍ صحيح أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنّه قال: ((إنَّ الله يحب أن تؤتَى رخصُه كما يحِبّ أن تُؤتى عزائِمُه))[2].
وفي هذا البيان النبويِّ الكريم ـ يا عباد الله ـ ما يرفَع توهُّمَ أنَّ الأخذَ برُخَص الله لعباده موصوفٌ بالنّقص أو التقصير أو عدَمِ الوفاء بالواجبات على الوجهِ الذي يحبُّه الله ويرضَاه؛ إذ بَيّنَ عليه الصلاة والسلام بيانًا جليًّا واضحًا أنَّ الأخذَ بالرّخَص هو كالأخذ بالعزائم ما دامَ أنَّ كلا منهما مستعمَلٌ في موضِعِه بمراعاة ضوابطه.
فاتَّقوا الله عباد الله، وانهَجوا نهجَ التيسير ورفعِ الحرج الذي رضِيَه الله لكم وتصدَّق به عليكم، فاقبلوا صدقتَه.
واذكروا على الدوامِ أنَّ الله تعالى قد أمركم بالصَّلاة والسلامِ على خيرِ الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الآلِ والصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوِك وكرمك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين...
[1] مسند أحمد (2/108)، صحيح ابن حبان (2742)، شعب الإيمان (3/403)، وقال المنذري في الترغيب (2/87): "رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما"، وصححه الألباني في الإرواء (564) على شرط مسلم.
[2] صحيح ابن حبان (3568)، سنن البيهقي الكبرى (3/140). وفي الباب عن ابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وعائشة رضي الله عنهم.
| |
|