molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الزهد في الدنيا - أحمد فريد الخميس 20 أكتوبر - 5:24:56 | |
|
الزهد في الدنيا
أحمد فريد
الخطبة الأولى
أما بعد:
خرّجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا، قال رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله حتى ظننت أنه ينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه قال: أين السائل؟ قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع))([1]).
كان النبي يتخوف على أمته من فتح الدنيا عليهم، فيخاف عليهم الافتتان بها، ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن النبي قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين: ((أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم))([2]).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي قال: ((إذا افتتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله عز وجل، فقال رسول الله : أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون))([3]).
قوله : ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)).
لما سمّى النبي ذلك بركات، وأخبر أنه أخوف ما يخاف عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه حيث سماه بركة، فإن البركة إنما هي خير ورحمة، وقد سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى: وإنه لحب الخير لشديد [العاديات:8]. وقال: إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين [البقرة:180].
وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي [ص:32]، فلما سأله السائل: (هل يأتي الخير بالشر) صمت النبي حتى ظنوا أنه أوحي إليه، والظاهر أن الأمر كذلك، ويدل عليه أنه ورد في رواية لمسلم في هذا الحديث: (فأفاق يمسح عنه الرحضاء)، وهو العرق، وكان النبي إذا أوحي إليه ينحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي وثقله عليه.
وفي هذا دليل على أنه كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه ولم يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه، فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال: أين السائل؟ قال: ها أنا، فقال النبي : ((إن الخير لا يأتي إلا بالخير))، وفي رواية لمسلم: ((أو خير هو)) في ذلك دليل عن أن المال ليس بخير على الإطلاق، بل منه خير ومنه شر، ثم ضرب مثل المال، ومثل من يأخذه بحقه وبصرفه في حقه، ومن يأخذه من غير حقه ويصرفه في غير حقه، فالمال في حق الأول خير، وفي حق الثاني شر، فتبين بهذا أن المال ليس بخير مطلق، بل هو خير مقيد إذا استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته كان خيرا له، وإلا كان شرا له.
فأما المال فقال إنه خضرة حلوة ، وقد وصف المال والدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة ففي الصحيحين عن حكيم بن حزام: ((أنه سأل النبي فأعطاه، ثم سأله فأعطاه ثم سأله فقال له النبي يا حكيم: إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع))([4]).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))([5]).
واستخلافهم فيها هو ما أورثهم الله منها، مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس والروم، وحذرهم من فتنة الدنيا عموما ومن فتنة النساء خصوصا، وهذا من الخاص بعد العام لمزيد الاهتمام لأن النساء من الدنيا، بل النساء أول ما ذكره الله عز وجل من شهوات الدنيا في قوله: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل والمسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا .
وقوله : ((وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر)) مثل ضربه رسول الله لزهرة الدنيا وبهجة منظرها وطيب نعيمها وحلاوته في النفوس، فمثله كمثل نبات الربيع وهو المرعى الأخضر فإن البهائم تحبه وتكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها، لاستحلائها له فإما أن يقتلها فتهلك وتموت حبطا، والحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل، أو يقارب قتلها ويلم بها فتمرض مرضا، مخوفا مقاربا للموت.
فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشره وجوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع، ولا بكثير يشبع، ولا يحلل ولا يحرم، بل الحلال عنده ما حل بيده وقدر عليه، والحرام ما حرم منه وعجز عنه.
تنفى اللذاذة ممن نال لذتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
شبه النبي من يأخذ الدنيا بغير حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع، حتى تنتفخ بطونها من أكله، فإما أن يقتلها وإما أن يقارب قتلها، فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها وضعها في غير وجهها، إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه. وهو من مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاح فيستحق النار بعمله.
قال تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [محمد:12].
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غبّه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
أما استثناؤه من ذلك آكلة الخضر، فمراده بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته، فإذا نفد واحتاج عاد إلى الأخذ منها قدر الحاجة، وآكلة الخضر دويبة تأكل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل، ثم تصرفه فتستقبل عين الشمس، فتصرف بذلك ما في بطنها ،وتخرج منها ما يؤذيها من الفضلات.
فهذا مثل المؤمن المقتصد في الدنيا يأخذ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته وحاجته، ويجتزي من متاعها بأدونه وأخشنه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته، فلا يوجب هذا الأخذ ضررا ولا مرضا ولا هلاكا، بل يكون ذلك بلاغا له يتبلغ به مدة حياته، ويعينه على التزود لآخرته، وفي هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته، وقنع بذلك كما قال : ((قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام وكان عيشه كفافا فقنع به))([6]).
خذ من الرزق ما كفى ومن العيش ما صفا
كل هذا سينقضي +راج إذا انطفا
ثم قال : ((إن هذا المال خضرة حلوة)) فأعاد مرة ثانية تحذيرا من الاغترار به، فخضرته بهجة منظره وحلاوته طيب طعمه، ولذلك تشتهيه النفوس وتسارع إلى طلبه، ولكن لو تفكرت في عواقبه لهربت منه.
الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الاغترار بزهرتها، وخوفهم من خضرتها وحلاوتها، وأخبرهم بخرابها وفنائها، وأن بين أيديهم دارا لا تنقطع خضرتها وحلاوتها، فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع وهلك، ومن لم يقف معها وسار إلى تلك وصل ونجا.
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل [التوبة:38].
أرضيتم بخرابات البلى عن الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن.
أتقنع بخسائس الحشائش والرياض، معشبة بين يديك.
فالدنيا نابتة على مزبلة منتنة، يا دنيء الهمة قنعت بروضة على م+لة، والملك يدعو إلى فردوسه الأعلى.
وقوله : ((من أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المؤنة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع)).
قال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس متاع غرور، ولكنه بلاغ إلى ما هو خير منه.
وقال بعضهم: كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا.
وقال أبو سليمان: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه، ومطية موصلة إليه لأوليائه، فسبحان من جعل شيئا واحدا، سببا للاتصال به والانقطاع عنه.
والقسم الثاني: من يأخذ المال بغير حقه، فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع منها بقليل ولا بكثير، ولا تشبع نفسه منه، ولهذا قال : ((كالذي يأكل ولا يشبع)) وكان النبي يتعوذ من نفس لا تشبع.
ومثل طالب الدنيا كشارب ماء البحر، كلما زاد شربا منه زاد عطشا، حتى يقتله.
وقال : ((لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب))([7]).
لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع، ولو تذكر الجائع فضول مآلها لشبع .
هب أنك قد ملكت الأرض طرا ودان لك العباد فكان ماذا
أليس إذا مصيرك جوف قبر ويحثي الترب هذا ثم هذا
وقد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا وخضرتها ونضرتها وبهجتها وسرعة تقلبها وزوالها وجعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلب أحواله ومآله قال تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً [الكهف:45].
وقال تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لهم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [يونس:24].
فالدنيا وجميع ما فيها من الخضرة والبهجة والنضرة تتقلب أحوالها، وتتبدل ثم تصير حطاما يابسا، وأجسام بني آدم وسائر الحيوانات كنبات الأرض، تتقلب من حال إلى حال، ثم تجف وتصير ترابا.
قال تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً [نوح:17-18].
فينقلب ابن آدم من الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السقم، ومن الوجود إلى العدم.
قال ميمون بن مهران لجلسائه: يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا أبيض؟
قالوا: الحصاد. فنظر إلى الشباب فقال إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد.
عباد الله: قبيح بالشباب تأخير التوبة، وأقبح منها تأخير الشيخ لها، فإن الرجل إذا شاب فهو كالحامل التي قد أتمت شهور حملها تسعة أشهر لا تنتظر إلى الولادة.
اللهم ارزقنا توبة نصوحا. . .الخ.
([1])رواه البخاري (11/244) الرقاق : باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، بلفظ: ((إن أكثر ما أخاف عليكم)) ورواه في الجمعة وفي الجهاد وفي الزكاة ، ومسلم (7/42،43) ال+اة : باب التحذير من الاغترار بالدنيا.
([2])رواه البخاري (11/243) الرقاق : باب ما يحذر من زهرة الدنيا التنافس فيها ، ورواه مسلم (18/95) أول كتاب الزهد ، وهو في المسند (4/137)، والترمذي وابن ماجة.
([3])مسلم (18/96) الزهد.
([4])البخاري (3/335) الزكاة : باب الاستعفاف عن المسألة وفي الوصايا وفي الجهاد وفي الرقاق ، ومسلم (7/126) ال+اة بيان أن اليد العليا من اليد السفلى.
([5])رواه مسلم (17/53) الرقاق: باب أكثر أهل الجنة الفقراء وهو عند الترمذي في جملة حديث طويل في الفتن ، ورواه كذلك ابن ماجة وعند النسائي (فما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وهي كذلك عند مسلم والترمذي وابن ماجة.
([6])رواه مسلم (3/102) والترمذي (2/56) وأحمد (2/168) والبيهقي (4/196) وقال الترمذي حسن صحيح ورواه ابن ماجة (4138) عن ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ ولا بأس به في المتابعات – الصحيحة رقم 129.
([7])البخاري (11/253) الرقاق : باب ما يتقى من فتنة المال ، وقوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة ومسلم (7/138) ال+اة : كراهة الحرص على الدنيا ، ورواه أحمد (1/370).
الخطبة الثانية
لم ترد .
| |
|