فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة النساء
الشيخ سليمان المدني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فتح على حقارة دار الديجور بصائر أودائه, وصرف عن التطلع إلى مقامات ممالك الغرور أبصار أحبائه, ونزَّه عن التشوِّف لبَهجة الدنيا الدنية قلوب أوليائه, فقضوا في سجنها الأيام صبراً على قضائه, ولم يتألموا مما نالهم من مكائد أعدائه, ولم يتأسفوا على ما حل بهم من عظيم بلائه, قد شغلهم عن التمتع بلذات هذه الدار ما يأملون من الكرامة في مجلس لقائه, وما أعده من النعيم للخلَّص من جلسائه, حيث البهجة والسرور, والفرحة والحبور, التي هي أعلى من سكنى القصور, وأهنأ على القلب من معانقة الحور.
نحمده سبحانه على أن شرح قلوبنا لقبول عقيدة التوحيد, وهيأ نفوسنا للإيمان بيوم الوعد والوعيد, ونشكره تعالى على ما وفقنا إليه من التصديق بالنبوات والنذر, واتباع الهداة والدلالات وال+ر، ونعوذ به جلَّ شأنه من الحشر مع الشيطان في سقر, ونسأله الورود يوم البعث الأكبر حوض الكوثر.
ونشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ذو المجد والبهاء, والعظمة والكبرياء, الأزلي الذي لا يدرك له ابتداء, المترفع بسرمديته عن أن يكون لوجهه فناءٌ أو انتهاء, المليء المستغني عن طاعة عباده الفقراء, الذي لا تضمه أرضٌ ولا تحويه سماء, فله سبحانه أشرف النعوت, وأكرم الأسماء.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده الذي ابتعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا, وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيرا، فاستنقذ به البرية من غوايات الضلالة, وهدى به الثقلين من مدلهمات الجهالة, ونشهد أن الخليفة بعده بلا فصلٍ عليٌ أمير المؤمنين، المأمون على شؤون الدنيا والدين.
صلى الله عليهما، وعلى المصطفين الأطهار من ذريتهما, أئمة المسلمين, وقادة الغر المحجلين, الدعاة إلى سنن المرسلين, والهداة إلى رب العالمين, صلاةً معطرةً بالفل والياسمين, دائمةً بدوام الدنيا والدين.
اعلموا عباد الله إن الله سبحانه أول ما خلق من الخلق نور نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله كما نطقت بذلك الروايات عنه عليه وآله أفضل الصلاة والسلام بل جاء في بعض الأناجيل التي هي اليوم ممنوعٌ قراءتها عند النصارى, أن الله سبحانه خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله قبل خلق السماوات والأرض بعشرين ألف عام وجعله في قنديلٍ سماوي, ومن نوره صلى الله عليه وآله خلق أنوار ابنته والمعصومين من أهل بيته, فكانوا أنواراً محدقةً بعرش الرحمن, وفي الرواية المستفيضة عنه صلى الله عليه وآله: فحمد الله نفسه فحمدناه, وسبح الله نفسه فسبحناه, فلما خلق الله الملائكة وسمعوا تهليلنا وتسبيحنا هللوا الله وسبحوه؛ فهو صلى الله عليه وآله والمعصومون من أهل بيته أشرف خلق الله على الإطلاق, ولذلك أخذ ميثاقهم على كافة الأنبياء والمرسلين, وابنته فاطمة التي نحتفل اليوم بذكرى وفاتها صلوات الله وسلامه عليها هي فرعه, وبضعته, بل هي روحه التي بين جنبيه ولحمته, ولذلك وصى بها أمته, وقال لهم: يسوؤني ما يسيئها ويسرني ما يسرها1؛ وأخبرهم صلى الله عليه وآله بفضلها عند الله سبحانه وتعالى حتى روى عنه كل أهل الإسلام على اختلاف مذاهبهم أنه قال صلى الله عليه وآله: "إن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها"2؛ هذه المرأة التي إكراماً لها لم يذكرِ الله سبحانه وتعالى الحور عندما وصف الجنّة التي ستنعم فيها مع بعلِها أمير المؤمنين, وهي سورة هل أتى, مع أنّه سبحانه لا يكادُ يذكر الجنة في تشويق عباده لطاعته إلا وذكر ما سيحصلون عليه من مقارنة الحور العين، وأيضاً لا يعني ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام محرومٌ في الجنّة من الحور العين ولكن الله أراد أن يبيّن للناس مقدار فاطمة عليها السلام حتى أنه لا يذكر معها امرأةً إنسيةً أو حوريةً في موضع تكون فيه، هذه المرأة ماذا نالها من أمة أبيها, يكفي أنّ قبرها غير معلوم، غير معروفٍ لدى الأمة لماذا؟ لأنها أوصت أن تُدفن سِرّا حتى لا يحضر جنازتها من أساء إليها وأغضبها, لا أريد أن استرسل فيما أصاب فاطمة عليها السلام من المصائب والمحن في نفسها, في بعلها، في بيتها، في ذريتها، فكل ذلك معلومٌ عند الجميع.
ولكنني أقول إنّ هذه المرأة العظيمة لها مَدرسةٌ خاصةٌ في التربية, وطُرُق تهذيب الأخلاق, ولها قيَمُها السلوكية الراقية في التعامل الاجتماعي والأسَري, ينبغي لكل مسلمٍ ومسلمة أن يقتدي به ويحتذيه. الأسرة التي كوّنتها فاطمة بنت محمدٍ مع عليٍ عليهم السلام هي المثال الحي لما يريد الله سبحانه وتعالى أن تقوم عليه الأسرة عند المسلمين, أسرةٌ بُنيت على التقوى والصلاح, أسرةٌ شُيِّدت على المحبة والألفة في ذات الله, لا للأطماع الدنيوية, فعليٌ عليه السلام لم يتقدم لخطبة فاطمة لأنها الموظفة الفلانية ذات الدخل الكبير أو الدخل الشهري الدائم, ولا من أجل الرغبة البهيمية, تعالوا ننظر كيف نشأت هذه الأسرة التي كما يتفق المسلمون أنها أنشئت بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى, فقد اتفق المسلمُون على أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لكل خاطبٍ جاءه يريد يدَ فاطمة أمرها ليس بيدي وإنما بيد الله وقد ردّ الله سبحانه وتعالى فيها خطاباً كثر لم يأذن بتزويجها من أحدٍ منهم, حتى خطبها أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فنزل جبريل عليه السلام وأعلَمَ النبيَّ أنّ الله سبحانه وتعالى قد زوج فاطمة من علي في السماء, وأمره بتزويجهما في الأرض.
هذه الزّيجة المباركة تعالُوا نأخذ منها الدروس لتكوين الأسرة المسلمة, هل طلبت فاطمة عليها السلام أن تُقام لها حفلة خطوبةٍ تكلف الكثير, وتسبب أن يحجم بقية الشباب عن الزواج, لأنهم لا يتمكنون من ذلك؟, هل طلبت فاطمة عليها السلام أن يُقدِّم لها هدية خطوبة تناسب مقامها وهي بنت سيد العرب, أو على الأقل بنت حاكم المدينة؟ هل طلبت فاطمة أن يكون لعليٍ بيتاً فخماً يُسكنها فيه؟ أو هل اشترطت أن يكون لها منزلاً خاصاً لا يشاركها فيه أحد من أهله؟ هل اشترطت فاطمة صَداقاً كثيراً تتباهى به بين قريناتها ولداتها من بنات الأكابر والسادة؟ لم يحصل شيءٌ من كل ذلك, كل ما دفع للزهراء عليها السلام من الصداق أربع مائة درهم, أما فراش العرس فهو حصير, فراش عرس الزهراء كان حصير من أدم- أي من جلد-، ليست هناك أسِرّة ولا أرائك ولا فرش مما تعتني به سائر الفتيات وتشترطنّه, وعاشت فاطمة عليها السلام مع علي لم تسأله في يومٍ من الأيام شيئا, لم تسأله حتى إذا ما جاء لها بشيءٍ من القوت أو لم يأتِ لها بشيء, فلقد قال لها أبوها صلى الله عليه وآله: لا تسألي علياً شيئا فإنه لن يشبع وأنتِ جائعة، وفي يومٍ من الأيام رغبت فاطمة عليها السلام في ستارةٍ تعلقها على باب دارها من أجل الستر وليس من أجل الزينة, من أجل زيادة الستر وليس من أجل الزينة, وهي تعلم أنّ علياً لا يملك ثمن الستارة, فذهبت لأبيها صلوات الله وسلامه عليه وعليها وطلبت منه ذلك فماذا قال لها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام؟: أعطيك بدل الستارة شيئاً أعظم, قولي بعد كل فريضة الله أكبر أربعاً وثلاثين مرة والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة وسبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة؛ هذه الرواية يجمع عليها كل أهل الإسلام؛ فرجعت إلى بيتها شاكرةً راضية؛ وهل تعلمون ماذا في هذا التسبيح من فائدة؟ في الرواية عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه: من واظب على تسبيح الزهراء بعد كل فريضة لم يمت إلا وقلبه مطمئنٌ بالإيمان3.
فاطمة عليها السلام ساهمت مع علي في تموين الأسرة لكن لا بالخروج من بيتها وتسكعها على أبواب الوزارات ومكاتب التجّار والشركات, وإنّما كان عليٌ عليه السلام يأتي لها بالصوف أو الوبر فتغزله في منزلها, وكيف تترك بيتها للأعمال المتوفرة آنذاك في المزارع أو في غيرها وهي التي تقول: خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا الرجال تراها4.
وعليٌ عليه السلام كيف عامل فاطمة, هل فعل كما يفعل بعض من يدّعي متابعته من الرجال؟, هل كان يغلظ القول لفاطمة؟, هل كان يكلّفها ما يُرهقها من الأعمال؟, هل يثور بوجهها لأتفه الأسباب, وربما مد يده عليها؟, هل كان يتشاجر معها أو تتشاجر معه أو يختلفان خاصةً أمام أولادهما؟, هل كانت هذه هي أخلاق عليٍ وفاطمة في سلوكهما الأسري, حتى تكون حياتنا الحالية قدوةً بهمـا؟. أم أنهما صلوات الله عليهما كانا يتعاملان بالاحترام المتبادل بينهما, ويتنازل كل واحدٍ منهما عما يراه من حقه وهما معصومان لا يرى الواحد منهما أن هذا حقه إلا وهو بالفعل حقه، ولا يكلف شريكه في الحياة ما يشق به عليه, وينكد عليه عشرته.
أيها المؤمنون إنّ في حياة عليٍ وفاطمة عِبرةً لكم ودروساً فلا تهملوها, ولا تجعلوا لحملة الفكر الشيطاني الغربي سبيلاً لانتقاد مجتمعكم ودينكم, ولا تفسحوا لهم المجال ليطبقوا عليكم قوانين الغرب الكافر, لقد كانت فاطمة جوهرةٌ مكنونة فاجعلوا نسائكم وبناتكم جواهر مكنونة, لقد كانت فاطمة حرةٌ مصونة فاجعلوا كل بناتكم وكل نسائكم حرّاتٍ مصونة, لا تتبعوا الغرب فتظهروا نسائكم وبناتكم يتصفح وجوههن العلوجُ في الأسواق وفي الدواوين باسم حرية المرأة, حرية المرأة, كرامة المرأة أن تكون ربة بيتها, أن تدير مملكتها كالنحلة, هل سمعتم أن النحلة تخرج من الخليّة؟, النحلة لا تخرج من الخلية, كذلك هذه المرأة ملكةٌ في بيتها فلماذا تجعلوها تخرج وكما يقول الشاعر:
أرسلوها تطلب الرزق خطى وهي لم تخلق لغير المنزل
فلها في كل باب وقفةٌ كامرئ القيس حيال الطلل
تتقي قول اغربي خشيتها قولة القائل يا هذي ادخلي
فهي كالعصفور وافى صاديا فرأى الصياد عند المنهل
فانثنى للماء يدنيه الظما ثم يقصيه اتقاء الأجل
لماذا تجعلوا نسائكم وبناتكم كهذه التي يصفها هذا الشاعر في مطلع هذا القرن في لبنان، أنتم إلى اليوم تتمكنون لا تكلفوا المرأة أن تعيل الأبناء وأن تكون خادمةً وأجيرةً لأصحاب المصانع وأصحاب الأموال:
في سبيل المال أو عشاقه تكدح المرأة كدح الإبل
هذه حالة اليوم
في سبيل المال أو عشاقه تكدح المرأة كدح الإبلفهي كالعصفور وافى صاديا فرأى الصياد عند المنهل
على أي حال, اجعلوا بناتكم, اجعلوا نسائكم حراتٍ مصونات, لا أجيراتٍ مستخدمات, سواءً بعنوان موظفة, بعنوان مديرة, بعنوان خادمة, هي على أي حال لا تكون إلا أجيرة، لماذا لم يكلفها الله أن تعيل البيت؟, كلفك الله أنت أن تعيل أبنائك وأن تعيل بناتك, يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: "المرأة ريحانة وليست بقهرمانة"5.
أنتِ أيتها المرأة المؤمنة لا تغتري بمن يطالبون بحرية المرأة فإن حرية المرأة الحقيقية أن تعيش سيدة في بيتها, ربة لأسرتها, لا خادمةً في مصنع، أو أجيرةً في وزارة, فتفارقي بيتك وأولادك طيلة النهار, لا تدرين ما يصيبهم, ولا تعرفين ماذا حلّ بهم, لا تغترِّي بهذه الندوات التي يقيمونها باسم الأسرة, والجمعيات التي ينشئونها باسم المرأة, فكلها فخاخٌ لصيدك, إبعادك عن دينك, جعلك قهرمانة خادمة تكدحين من أجل أرباب المال, لا تعتمدي على الدراسات التي يقدمونها تحت عنواناتٍ باطلة مثل عنوان حرية المرأة, فإنهم لم يكونوا يوماً من الأيام بأحكام الله عاملين, ولا لشريعته داعين.
وفقنا الله وإياكم جميعا للتمسك بكتابه, والاستنان بسنة نبيه, والسير على هدي عترته، إنه لطيفٌ بعباده رؤوفٌ رحيم.
إن خير ما نطق به واعظ خطيب, وتأمله متعظ لبيب, كلام الله الرقيب الحسيب, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ& فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ& إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ6.وأستغفر الله لي ولكم, إنه غفورٌ رحيم, وتوابٌ كريم.
1 "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني أو آذاها فقد آذاني"بحار الأنوار - ج43 - ص76 - العلامة المجلسي، "فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها"الغدير ج7 - ص174 الشيخ الأميني
2 بحار الأنوار - ج21 - ص279 - العلامة المجلسي
3 بحار الأنوار - ج83 ص6 – العلامة المجلسي
4 "خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهنّ الرجال"بحار الأنوار – ج43 ص54 – العلامة المجلسي
5 بحار الأنوار - ج74 - ص214 - العلامة المجلسي
6 سورة الكوثر
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله قديم المنِّ جزيل العطاء, عميم الإحسان سميع الدعاء, لطيف بالخلق سريع الرضاء, جميل الفعل محلّ الرجاء, مفيض الخير مجيب النداء, عزيز الشأن حقيق الثناء, الذي يختص برحمته من يشاء, ويرفع درجات من يشاء, ويهدي لإتباع الحق من يشاء, له الأمر وله الحكم في الأرض والسماء, وله العزة والعظمة والكبرياء, وله المجد والبهاء, وله أحسن الأسماء, فتبارك ربنا عن الوصف وتعالى.
نحمده سبحانه حمد متمرغٍ في بحبوحة مِننه وألآئه, غاطسٍ في تيار كرمه وعطائه, متعرضٍ لفيوضات نعمه وحبائه, شاكرٍ لكريم صفحه عن جرائره وجميل إغضائه, ونسأله التوفيق في هذه الحياة للتسليم بقدره وقضائه, والفوز بالمغفرة والرضوان يوم لقائه.
ونشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له, شهادةً تكون لنا نوراً في الظلمات, وأماناً في المخافات, وفرجاً في الكربات, وذخراً في النائبات, ومعاذاً يوم الممات, ووسيلةً للفوز بالغرفات.
ونشهد أنّ محمداً صلى الله عليه وآله, عبده المنتجب, ورسوله المنتخب, أفضل من +ى نجاراً وانتسب, ابتعثه بالحنيفية السهلة النوراء لكافة العجم والعرب, هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ1؛ فجعله للعالمين نذيراً وبشيرا.
صلى الله عليه وآله القائمين بأعباء تلك الملّة المنورة, الناهضين بأثقال هاتيك الشريعة المطهرة, الحافظين لديانته من تحريف المردة الكفرة, الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
عباد الله, أوصيكم ونفسي الجانية الآثمة قبلكم بتقوى الله سبحانه, الذي إليه معادكم, وعليه في جميع الأمور اعتمادكم, فإن الأعمار قد آذنت بالانصرام, ودواعي الموت قد طوَت في الوصول إليكم الليالي والأيام, فها هي على الأبواب منتظرةٌ للجواب, ولا حاجب يمنعها ولا بوّاب, إلا الأجل الموقت لكم من الملك الديان, الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فكان, فإما إلى نعيم الجنان, وإما إلى عذاب النيران, وما برحنا في أودية الجهالة هائمين, وعلى سرر الغفلة نائمين, لا ندري ما نصبح عليه إذا طرق طارقُ المنية, وما نصِير إليه إذا حلّت بنا تلك الرزية, فيا لله من يومٍ يخذل فيه الصديق, ويتبرأ فيه الحميم الشفيق, يومٌ يكثر واترُه, ويقل ناصره, وتطم وقائعه, وتعمُّ فجائعه, يوم يسلمك فيه والدك الرؤوف, ويهرب منك بعد أن كان بك العطوف, يومٌ تصبح فيه جيفةً منتنة, بعد أن كنت بتلك الصورة الحسنة, يوم تنقل من القصور المشيدة, إلى القبور الملحدة, يوم تتحول من الفرش الناعمة والخدم والجوار, إلى الحفرة المظلمة ذات الصخور والأحجار, فتصبح بعد العز ذليلا, وبعد الأكل مأكولا, يوم يتبرأ منك الصاحب والولد, ولا يغني عنك غير عملك أحد, فإنْ قدمته صالحاً فيا بشراك, وبالسعادة والنجاح ما أحقك وأحراك, وإن قدمته طالحاً فالويل لك في سفرك ومسراك, والعذاب الشديد في عاقبتك وأخراك, فبادر أيها الغافل لإصلاح العمل, قبل انقطاع الأجل, وتبين كاذب الأمل, فإن السير طويل وحادي الرحيل نادى العجل العجل, وكم هولٍ ستلقى تنسى عندها أهوال الموت مع كونها شديدة, وكم من مصيبةٍ تنزل بك فتنسيك هاتيك المصائب العديدة.
فيا من إليه المرجع والمآب, ويا من وعد بالعفو من رجع إليه وآناب, ويا من سمى نفسه بالغفور التواب, ارحم من أسلمته إليك أيدي الأقارب والأحباب, وتغلقت عليه دون بابك الأبواب, وانقطعت منه إلا إليك الأسباب.
ألا وإن الله تعالى قد خصّ محمداً صلى الله عليه وآله بمزايا عظيمة, لم يجعلها لسواه, وشرفه بخصائص جليلة وحباه, فجعل من تلك الصفايا الجسام أن الصلاة عليه وآله من الكفارات العظام, لمحو الذنوب والآثام.
اللهم صلّ على النور المشرق في طخياء الديجور, والجوهر القدسي المتجرد عن دار الغرور, الذي لا يعلم حقيقة ذاته إلاك, ولا يحيط بقدر منزلته سواك, السر الإلهي الذي في الهيكل البشري قد تجسد, النبي العربي المؤيد, أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على تالِيه في الفضل من بين البرية, وشاهِده على ما حمّلته من الرسالة الإلهية, وخليفته المنصوص للقيام بشؤون الأمة الإسلامية, النور الثاقب في سماء المجد والمناقب, وسيف القضاء اللا+, الذي لا ينجو منه هارب, الإمام بالنص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
اللهم صلّ على الصفوة المطهرة المعصومة, والبضعة المهتضمة المظلومة, ذات الأحزان الطويلة والمدة القليلة, المغلوبة على إرثها ونحلتها قهرا, والمدفونة بأمرها سرا, أم الحسنين فاطمة الزهرا.
اللهم صلّ على نور الملوين, وبدر الخافقين, ريحانة الرسول, وثمرة فؤاد الزهراء البتول, وصنو السيد البهلول, صاحب الأيادي والمنن, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن.
اللهم صلّ على الغريب عن الأهل والأوطان, والمفجوع بالأولاد والإخوان, والمدفون بلا غسلٍ ولا أكفان, قرة عين النبي الأمين, الإمام بالنص أبي عبد الله الشهيد الحسين.
اللهم صلّ على مقدام العبَّاد, ومصباح الزهاد, ومنهاج السداد, والد الأئمة الأمجاد, الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين السجاد.
اللهم صلّ على البحر الزاخر بنفائس الجواهر, والعَلَم الخافق في سماء المجد والمفاخر, والبدر اللائح في أفق المكارم والمآثر, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الأول محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلّ على الفجر الصادق في ديجور الجهل الغاسق, والكوكب المشرق بضياء العلوم والحقائق, والوميض البارق بسنيّ الأسرار والدقائق, الملجِم بقوة حجته لسان كل ناعقٍ وناهق, الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلّ على حافظ من تبقى من الأسرة النبوية, بسلوكه جادة التقية, وحارس مناهج الشيعة العلوية, بمداراته للعصبة الغوية, الصابر على ما أصابه من المظالم, والحجة على جميع أهل العوالم, الإمام بالنص أبي الحسن الأول موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلّ على السيف المنتضى, العالم بالحكم والقضا, المسلّم بما جرى به القدر والقضا, والضامن لزواره الفوز يوم القضا, الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلّ على صدر جريد الأمجاد, وقائد أهل الفضل والرشاد, وناشر علم الهداية والسداد, وملجم أهل الغواية والعناد, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على السيدَين الأسعدَين, والكهفين المعتمدَين, إمامَي الحرمَين من غير كذب ومَين, الإمام بالنص أبي الحسن الثالث علي بن محمدٍ, وابنه الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن العسكريين.
اللهم صلّ على محيي معالم الدين, وقاصم شوكة المعتدين, رافع الراية الأحمدية, ومجدد الشريعة المحمدية, قالع أساس الكفر والنفاق, ومدمّر دول الشرك والشقاق, ناصر أهل الإيمان, وباهر البرهان, وشريك القرآن, الإمام بالنص مولانا المهدي بن الحسن صاحب العصر والزمان.
عجّل الله تعالى فرجه, وسهل مخرجه, وبسط على وسيع الأرض منهجه, وجعلنا من الداخلين في حياطة دعوته, الفائزين باستشراق أنوار غرته, إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة حريٌ جدير.
إن أبلغ النصائح والمواعظ, وأفضل ما ختم به خطيب واعظ, كلام الله الملك الحافظ, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ2. وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات, إنه غفورٌ رحيم, وتوابٌ كريم.
1 سورة التوبة: من الآية33
2 سورة النحل: 90