الموت والحساب (3)
الشيخ عاطف شمس
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد المقدمة:-
ولله المثل الأعلى إذا امتلأت المحكمة والمتهمون وراء القفص الحديدى يصيح الحاجب (محكمة) يقوم الجميع وتكتم الأنفاس تكاد القلوب تقفز من الصدور ويحكم القاضى أما بالسجن أو بالبراءة .
(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) طه 108. بعد أن تنزل الملائكة وتحيط بالناس – ملائكة السماء الدنيا – ثم ملائكة السماء الثانية-وهكذا (يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) الفرقان 25. ويجئ الله عز وجل مجيئا يليق به.
الشمس فوق الرؤوس تكاد تذيب الجماجم والعظام- الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس – كرب - هم - غم العرق يكاد يغرق الناس كل بحسب عمله ويأمر الله بإحضار جهنم الكل يقول اللهم سلم سلم ويقول الناس ألا ترون ما نحن فيه انظروا إلى من يشفع إلى الله يذهب الناس إلى الأنبياء واحد وراء الآخر كل نبى يقول نفسى نفسى لقد غضب الله اليوم غضبا لم يغضب قبله ولا بعده. حتى يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوة الخلق وحبيب الحق فيقول أنا لها أنا لها فيخر ساجدا تحت العرش ويثنى على الله بمحامد لم يفتح الله بها على أحد من قبل فينادى عليه ربه يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيقول يا رب أمتى أمتى ويبدأ القضاء - فيحشر كل من كان يعبد شيئا بشرا أو حجرا أو صنم يحشر معه يقول رب العزة: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) الجاثية.
وأول من سيكلمهم الله من الأنبياء – نوح يا نوح هل بلغت فيقول نعم يا رب فيقول قومه ما آتانا من نذير وما آتانا من أحد فتشهد أمة محمد أنه بلغ فنحن والحمد لله شهداء على كل الأمم السابقة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة 143.
يقول رب العزة لعيسى عليه السلام (أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة.
وفى حديث متفق عليه (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه (شماله) فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة أى عمل تبعدوا أنفسكم به عن النار. روى مسلم (كنا عند رسول الله فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال أتدرون مما أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول رب ألم تجرنى من الظلم فيقول بلى فيقول لا أجيز على شاهدا إلا من نفسى فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه أنطقى فتنطق بعمله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا وسحقا ففيكن كنت أناضل).
(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون) فصلت 23.
يناد مناد من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه فيفرح كل إنسان له حق حتى لو كان عند والده أو أمه أو زوجته (يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه).
وموقف أخر قال تعالى (وان تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى). وإن تدع نفس مثقله بالذنوب إلى حملها من يحمل عنها لا تجد قالوا الوالد يسأل ولده أى أب كنت لك؟ نعم الأب فيقول إنى محتاج إلى بعض حسانتك ما أهون ما تطلب ولكنى أخاف مما تخاف منه. الأم تتعلق بابنتها أى أم كنت لكى فتقول نعم الأم - حجاب عفاف دين - تربيه إسلامية صحيحة فتقول بعض حسناتك فتقول ما أهون ما تطلبين لكنى أخاف مما تخافين منه. الجار هكذا مع جاره يتعلق به (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه).
مشهد آخر قال تعالى (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) الكهف 49.
فيه كل شىء عمله الإنسان كلا نظرة كل خطوة. البعض يأخذ كتابه بيمينه فيفتح ويقرأ. الأخر بشماله والبعض تلف يده اليسرى خلف ظهره فيأخذ كتابه من وراء ظهره وهنا يحدث العراك – العراك – الصراخ – العويل ويلعن بعضهم بعضا وتنتشر الفضائح (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا) الفرقان 27.
ويتخاصم الضعفاء والمتكبرين يقولون لهم كنتم تأمروننا أن نظلم قلتم لنا نحن الأقوى - اسخروا من الملتزمين فى الإعلام – قلتم لنا كشف الشعر جائز - كشف الجسم جائز حرية شخصية (لولا انتم لكنا مؤمنين) يردون عليهم (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذا جاءكم بل كنتم مجرمين) سبأ 32.
(وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتنى لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه -يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عنى ماليه - هلك عنى سلطانيه) (خذوه فغلوه - ثم الجحيم صلوه - ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه).
ويتوجهون إلى إبليس وأعوانه أنتم الذين زينتم لنا المعاصى قلتم سهله - الكبيرة قلتم أنها صغيرة والله يعفو عنها فيقوم الشيطان يخطب خطبه بليغة قال الحسن البصرى يوضع له منبر من نار ليخطب عليه إياك أن تسأل نار وهو مصنوع من نار وداخل النار نعم أنت مخلوق من طين ولو جئنا بحجر من طين على رأسك أتتوجع أم لا.
قال تعالى (وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى إنى كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) إبراهيم 22.
-ثم يبدأ الحساب:
ما سبق كان القضاء أما الحساب فيبدأ. فجاء فى صحيح مسلم إن أول من يحاسب رجل أستشهد يقول قاتلت فيك حتى استشهدت يقال كذبت قاتلت ليقال جرئ وقد قيل ويأمر الله به فيسحب على وجهه فى النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن قال تعلمته فيك العلم وعلمته يقال كذبت تعلمته ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ وقد قيل ويأمر الله به فيسحب على وجهه فى النار ورجل أعطاه الله المال فقال يا رب أنفقت لك فى كل خير ينال يقال كذبت يقال أنفقت ليقال جواد وقد قيل ثم أمر به فيسحب على وجهه ثم يلقى فى النار) الحديث بالمعنى.
كل من سبق فقد شرطا مهما جدا لقبول العمل وهو الإخلاص ليقبل الله العمل لابد من شرطين إخلاص ومتابعة:
- إخلاص يعنى لله وحده.
- متابعة على منهج النبى.
-ماذا يفعل المؤمنون:
روى بن أبى حاتم (المؤمن يعطى كتابه بيمينه فى ستر من الله فيقرأ سيئاته فكلما قرأ سيئة تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات) فعند ذلك يقول (هاؤم اقرءوا كتابيه) فيقول له رب العزة قد سترتك فى الدنيا ولم أفضحك واليوم اغفرها لك (هاؤم اقرءوا كتابيه إنى ظننت أنى ملاق حسابيه فهو فى عيشة راضية فى جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية) الحاقة 21-24.
الخطبة الثانية
-بشرى طيبه وخير عميم:
جاء فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن يوما فقرأ قول إبراهيم عليه السلام (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) إبراهيم 36. ثم قرأ قول عيسى (وإن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) المائدة 118. فرفع يديه إلى السماء باكيا فقال الله لجبريل وهو يعلم سل محمدا ما يبكيك فقال أمتى أمتى فقال الله عز وجل لجبريل قل لمحمد إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوؤك.
أحزان قلبى لا تزول حتى أبشر بالقبـول
وأخذ كتابى باليمين وتسر عينى بالرسول
-من ينجو من هذا الموقف:
(من نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس الله عنه كربه من كرب يوم القيامة) إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين يعدلون فى حكمهم وأهلهم وما ولوا) مسلم.