دروس الحج وعبره
الشيخ عبدالرزاق العباد
الحمد لله رب العالمين أحمده تبارك وتعالى بمحامده التي هو لها أهل وأثني عليه الخير كله لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه أحمده تبارك وتعالى على أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة وأحمده جل وعلا على نعمه الكثيرة وعطاياه العميمة نحمده جل وعلا على فضله وإحسانه وإنعامه وإكرامه ونسأله جل وعلا المزيد من فضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه ثم اعلموا رحمك الله أن الأمة الإسلامية تستقبل قريبا موسما عظيما لطاعة الله جل وعلا والتقرب إليه فالمسلمون يستقبلون موسم الحج ذلكم الموسم المبارك المليء بالعبر والعظات والدروس النافعة فالحجاج في هذا الموسم يتلقون دروسا عظيمة وعبرا بالغة وعظات مؤثرة من خلال مناسك الحج وشعائره عباد الله ففي الحج تحقيق للعبودية وتكميل لها وذلك لما فيه من التذلل لله والخضوع والان+ار بين يديه تبارك وتعالى فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه تاركا ما له وأهله ووطنه متجرداً من ثيابه حاصرا عن رأسه متواضعا لربه تبارك وتعالى تاركاً الطيب والنساء متنقلا بين المشاعر بقلب خاشع وعين دامعة ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه وشعاره في ذلك كله لبيك اللهم لبيك ومعنى ذلك إنني خاضع لك يا رب منقاد لأمرك مستعد لما حملتني من الأمانة طاعةً لك واستسلاما دون ما إباء أو تردد وفي الحج عباد الله إقامة لذكر الله فالذكر هو المقصود الأعظم للعبادات فما شرعت العبادات إلا لأجله وما تقرب المتقربون إلى الله بمثله والحج كله ذكر لله قال الله تعالى: ﴿ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾ الحج: ٢٨ وقال تعالى: ﴿ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربِّكم فإذا أَفضتُم من عرفات فاذكروا الله عند المشعَر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم مِن قبله لَمِن الضالين﴾ البقرة: ١٩٨ وما شرع الطواف بالبيت ولا السعي بين الصفا والمروة ولا رمي الجمار ولا غير ذلك من أعمال الحج إلا للإقامة ذكر الله وفي هذا بيان لعلو شأن الذكر ورفعة منزلته وجلالة قدره وأنه مقصود العبادات كلِّها.
والحج عباد الله باب رحب للتوبة إلى الله والإنابة إليه وحط الأوزار ورفع الدرجات وإقالة العثرات والعتق من النار روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه "عند إسلامه أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله"
وفي الحج عباد الله تهييج للذكريات جملة وعزيزة على قبل كل مسلم تتردّد على الذهن وتتوارد في الخاطر أثناء الحج وفترة التنقل بين تلك المشاعر العظيمة فالحاج على سبيل المثال يتذكّر أبانا إبراهيم الخليلَ عليه السلام فيتذكر توحيده لربه ومهاجَرَه في سبيله وكمال عبوديته له وتقديمَه محاب ربِّه على محاب نفسه، ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة وما حصل له من الكرامات والمقامات العالية ويتذكر أذانه في الحج ودعائه لمكة المكرمة: ﴿ربِّ اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهلَه مِنَ الثَّمرات مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر﴾ البقرة: ١٢٦ وبركات تلك الدعوات التي تُرى أثارها إلى يومنا الحاضر .
ويتذكر الحاج ما كان من أمر أُمِّنا هاجر فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة بحثا عن ماء تشربه لتُدرّ باللبن على وليدها إسماعيل ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية وركنا من أركان الحج .
ويتذكر أبانا إسماعيل عليه السلام فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه في بناء الكعبة ﴿وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ مِنَ البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السميع العليم﴾ البقرة: ١٢٧
ويتذكر ما كان من بِرّ إسماعيل بأبيه حيث أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه فما كان من إسماعيل إلا أن استجاب للنداء وامتثل للأمر وذلك من تمام بِرّه وكمال طاعته ﴿فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنِّي أذبحك فانظر ماذا تَرَى قال يا أبتِ افعل ما تُؤمَر ستجدني إن شاء الله مِنَ الصابرين فلمَّا أسلمَا وتَلَّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرُّؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين وفديناهُ بذِبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين﴾ الصافات: ١٠٢ – ١١٠
ويتذكر الحاج أن مكّة هي موطن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ولد وشبّ وفيها تنزل عليه الوحي ومنها شعَّ نور الإسلام الذي بدَّد دياجير الظلام
ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة وذلك الركب الميمون
ويتذكر الصحابة رضي الله عنهم حماةَ هذا الدين وأنصارَه وما لقوه من البلاء في سبيل نشره
ويتذكر أن هذا البيت هو أوّل بيت وضع للناس وأنه مبارك وهدى للعالمين
ومن خلال هذه الذكريات الجميلة العظيمة يرتبط المؤمن بأكبر رباط وتنبعث نفسه إلى حب أسلافه الكرام والحرص على اتباع آثارهم والسير على نهجهم ومنوالهم وبذلك عباد الله يربح الحاج في حجّه أرباحا عظيمة ويعود منه بأكبر ربح وأعظم غنيمة
فالحج بحق مدرسة تربوية إيمانية عظيمة يتخرج فيها المؤمنون المتقون بعد أن يشهدوا في حجهم المنافع العظيمة والدروسَ المتنوعة والعظات المؤثرة فتحيى بذلك القلوب ويتقوّى الإيمان ويزداد اليقين يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ الحج: ٢٧ – ٢٩ بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ورزقنا وإياكم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد: عبادَ الله اتقوا الله تعالى واعلموا أن تقوى الله جل وعلا هي خير زاد يبلِّغ إلى رضوان الله يقول الله تبارك وتعالى في أثناء آيات الحج: ﴿وتزوَّدوا فإنَّ خير الزَّاد التَّقوى واتَّقونِ يا أولي الألباب﴾ البقرة: ١٩٧
عباد الله روى البزار في مسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم" وهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عباد الله وهذا الحديث العظيم يدل على عظم مكانة الحاج عند الله ورفعت منزلتهم وعلو شأنهم وما ينبغي أن يرعاه المؤمنون تجاههم من حقوق، فالحجاج كما في هذا الحديث وفد الله جل وعلا أضيفوا إلى الله جل وعلا تكريما لهم وتشريفا لقدرهم وتعلية لشأنهم فهم وفد الرحمن وضيوف الله جل وعلا والواجب على كل مسلم أن يكرم ضيوف الرحمن وأن يعتني بوفد الله وأن يرعى لهم حقَّهم وأن يعرف لهم مكانتهم وأن يتعامل معهم بأحسن معاملة وأطيب أسلوب تقديرا لمكانتهم الرفيعة ومنزلتهم العالية هؤلاء الحجاج توافدوا إلى هذه الديار امتثالا لنداء الله واستجابا لدعائه تبارك وتعالى ورغبة في موعوده فهم وفد كريم قدموا على هذه الديار المباركة طلبا لرضوان الله ورغبة في ثوابه والنجاة من عقابه
عباد الله لقد تحمَّل كثير من هؤلاء المشاق الكثيرة والنَّصَب والتَّعَب وتغرّبوا عن الأوطان وتركوا البيوت والأهل والأولاد رغبة في هذه الطاعة وطمعا في تحصيل الأجر والثواب دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم وفي هذا أن الحاجَّ دعوته عند الله مستجابة لأنه في حال كريمة وفي عبادة عظيمة وفي طاعة جليلة هي ركن عظيم من أركان الإسلام وإنا لنسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ييسر لحجاج بيت الله الحرام حجَّهم وأن يسهل لهم أداء هذه الطاعة وأن يتقبل منهم نصبهم وتعبهم وأن يردهم إلى ديارهم بأعظم ربح وأجلّ غنيمة وأن يغفر لنا ولهم ولجميع المسلمين.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسلِّموا تسليما﴾ الأحزاب: ٥٦ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وارض الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمِّر أعداء الدين اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان اللهم انصر مَنْ نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين اللهم عليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك اللهم مزقهم شر ممزق اللهم فرق جمعهم وشتت بين قلوبهم واجعل عليهم دائرةَ السَّوْء يا ذا الجلال والإكرام اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وأعنه على البر والتقوى وسدده في أقواله وأعماله اللهم وقف جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من +اها أنت وليها ومولاها اللهم إنا نسألك الهدى والسّداد اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر اللهم اغفر لنا ذنبنا كلَّه دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وذرياتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أينما كنا اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين واكتب الصحة والسلامة والعافية للحجاج والمعتمرين يا حي يا قيوم يا ذا لجلال والإكرام وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.