البيان الشافي مع الدليل الوافي في حكم تارك الصلاة - بيان الحق الثالث من حقوق المسلم على المسلم
الشيخ محمد صالح العثيمين
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح أمته وتركهم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون إن أعظم أركان الإسلام بعد التوحيد والشهادة بالرسالة هي الصلاة هي ثاني أركان الإسلام وأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ويدل لأهميتها وعظمتها في دين الله أن الله تعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أعلى مكان وصل إليه البشر وفرضها على نبيه في أشرف ليلة كانت لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفرضها على نبيه بدون واسطة بل من الله إلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفرضها على رسوله خمسين صلاة في اليوم والليلة مما يدل على أن الإنسان لو أذهب جل وقته فيها لكانت جديرة بذلك ولكن الله تعالى خفف عن عباده بعفوه ورحمته فجعلها خمس صلوات لكنها عن "خمسين صلاة"(1) ولهذا ومن أجل أهميتها وعظمتها كان تركها كفراً مخرجاً عن الملة كما جاءت بذلك نصوص الكتاب والسنة وكما كان ذلك قول الصحابة الكرام رضي الله عنهم وإن هذه المسالة أعني مسألة ترك الصلاة لمسألة كبيرة عظيمة من أعظم المسائل وأكبرها حكما وأثرا إنها مسألة ليست موعظة عابرة يتأثر بها المرء حين سماعها وسرعان ما ينساها إنها مسألة ليست مسألة فكرية يقضي بها فكر رجل وينكرها فكر رجل آخر إنها مسألة دينية شرعية القضاء فيها لله ورسوله لا لغيرهما يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36] إنه ليس للمؤمن إلا أن يستسلم ويسلم فيها لحكم الله ورسوله متى تبين له إنه لا يمكن المسلم أن يحيص يمينا وشمالا عن ما تقتضيه شريعة الله في هذه المسألة العظيمة إنها مسألة ترك الصلاة نهائياً التي ابتلي بها بعض الناس اليوم فأصبحوا بأهوائهم مأسورين وعلى ترك الصلاة محافظين إن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة وإن تارك الصلاة يحكم عليه بالكفر كفراً مخرجاً عن الملة تجري عليه أحكام المرتدين الدنيوية والأخروية إننا نقول ذلك ليس عن هوى مجرد ولا عن فكر ماضي ولكنه استنادا إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإلى أقوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم سالكين بذلك منهج إمام أهل السنة بلا منازع أحمد بن حنبل تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.
أيها الإخوة إنه والله لا أحد أعظم بالخلق رحمة ولا أبلغ في الحكم حكمة من رب العالمين الذي له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم في الدنيا والآخرة وإلى الله نرجع في جميع أمورنا في ديننا ودنيانا إننا والله لن نجسر ولا يحق لنا أن نجسر أن نقول عن شخص ينتسب إلى الإسلام إنه كافر حتى يكفره الله ورسوله وإذا كفره الله ورسوله فلن نتهيب ولا يحق لنا أن نتهيب عن تكفير شخص دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفره مهما خالفنا من يخالفنا إن بيدنا الحق إذا كان ذلك هو مدلول كتاب الله ورسوله.
أيها الإخوة كيف يسوغ لنا أن نتهيب عن تكفير تارك الصلاة وقد صدر الحكم عليه بالكفر ممن له الحكم، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [النمل: 78]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
أيها الإخوة إننا سمعنا ما قد ينشر ويذاع من المحطات الفضائية ما يقضي بتهوين ترك الصلاة في نفوس المسلمين سمعنا ذلك وقرأنا أن بعض الناس يقول تكفير تارك الصلاة من مفردات الإمام أحمد بن حنبل لم يقل به أحد من الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي ولعمر الله أيها الإخوة لئن كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله انفرد به بمقتضى الدليل عنده لأن ذلك من مناقبه وفضائله رحمه الله وإن انفراد إمام من الأئمة بقول دل عليه الكتاب والسنة ليس والله انفراداً بل إن ذلك هو الجماعة وإن مخالفة ما دل عليه الكتاب والسنة هو الانفراد حقيقة وإن انفراد إمام من الأئمة بقول دل عليه الكتاب والسنة لا يمنع أبدا من قبوله والقول بمقتضاه إذا كان هذا هو مقتضى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن القائل إن هذا من مفردات الإمام أحمد بن حنبل لقائل بلا علم لأنه لم يرجع إلى كتب أهل العلم التي تنقل أقوال الأئمة ومن رجع إلى كتب أهل العلم التي تنقل أقوال الأئمة تبين له أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لم ينفرد بهذا القول أعني القول بتكفير تارك الصلاة فقد قال بذلك القول قبله من الصحابة الكرام عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبو هريرة رضي الله عنهم ذكر ذلك عنهم ابن حزم رحمه الله وقال لا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة وذكره صاحب الترغيب والترهيب عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبي الدرداء رضي الله عنهم وقال في نيل الأوطار إنه مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء تسعة من الصحابة منهم الخليفتان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولا يعلم لهؤلاء مخالف من الصحابة كما قال ابن حزم رحمه الله وقال عبد الله بن شقيق وهو من التابعين المعروفين: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"(2) وقال بتكفير تارك الصلاة ومن التابعين إبراهيم النخعي وهو من أفقه التابعين والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني ونقل عنه حماد بن زيد أنه قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه فهذه أيها الإخوة أقوال صدر هذه الأمة وخير قرونها الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أما من بعد هؤلاء فقد قال بذلك عبد الله بن المبارك وزهير بن حرب وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن راهويه أحد أئمة المسلمين ونقل عن الشافعي نفسه وهو أحد الوجهين في مذهبه.
أيها الإخوة إنما اضطررنا إلى سياق هذه الأقوال ليتبين أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لم ينفرد بهذا القول بل سبقه إليه من تقدمه فيه من الصحابة والتابعين وتابعيهم وتابعه من بعده من الأئمة رضي الله عنهم عن الجميع وأسأل الله تعالى في موقفي هذا أن يوفقنا للهدى والتقى اللهم وفقنا للهدى والتقى اللهم وفقنا للهدى والتقى اللهم اجعلنا ممن رأى الحق حقاً واتبعه ورأى الباطل باطلاً واجتنبه وإن المخالفين لهذه الأدلة ولهؤلاء الأئمة لنرجو الله تبارك وتعالى لهم العفو والمغفرة لأنهم لم يخالفوا ذلك عن مكابرة واستكبار وإنما هذا اجتهادهم وهذه الأمة الكريمة على ربها "من اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد"(3).
أيها المسلمون إذا كانت هذه المسألة الكبيرة العظيمة من مسائل الاختلاف بين المسلمين علمائهم وأئمتهم فإلى من يكون الحكم فيها والى أين يكون التحاكم اسمعوا إلى قول الله تعالى حيث تولى سبحانه وتعالى الإجابة عن ذلك بنفسه فقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 100] وماذا يكون حكم الله اسمعوا الله يقول: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59] وإذا رددنا التنازع في هذه المسألة إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجدنا أن الله تعالى يقول في كتابه في المشركين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11] فاشترط الله تعالى لكونهم إخوة لنا في الدين اشترط ثلاثة شروط: الشرط الأول: التوبة من الشرك، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء ال+اة، ولا تنتفي الأخوة في الدين بالفسق ولو كان من أكبر الكبائر إن الأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يفقد الدين وذلك هو الكفر الأكبر البواح ويقول جل وعلا: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ﴾ [مريم: 59-60] فقوله: ﴿إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ﴾ يدل على أنه كان قبل ذلك غير مؤمن وإذا رددنا التنازع في هذه المسألة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدناه صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(4) ويقول فيما رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث بريدة رضي الله عنه: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"(5) فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة هي الحاجز بين الرجل وبين الشرك والكفر وبين المسلمين والكفار فمن تركها فقد دخل في الكفر والشرك وصار من غير المسلمين ولهذا جاء في الحديث أنه يكون يوم القيامة قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف مع أئمة الكفر لا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
أيها الإخوة المسلمون لقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك الصلاة "فمن تركها فقد كفر" فعبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالترك وبهذا نعرف أن من حمل الحديث على الجحود فقد حرف معناه لان بعض الناس يقول إن النبي صلي الله عليه وسلم أراد فمن تركها جاحدا لها ولكن هذا فيه جناية على النص من وجهين: الوجه الأول: إخراجه عن ظاهره، والوجه الثاني: إثبات معنى فاسد لا يتلاءم معه، إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يشك أي مؤمن به أنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بأحكام الله وأنه أعلمهم بما يقول وأنه أنصحهم فيما يرشد إليه وأنه أفصحهم بيانا فيما يعبر به أفتراه يريد الجحد فيعبر عنه بالترك مع اختلاف التعبير في اللفظ والمعنى اختلافاً كبيراً؟ فالتارك للصلاة تارك لها ولو كان مقراً بوجوبها وقد حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالكفر والجاحد لوجوبها جاحد ولو صلاها فهو كافر صلاها أم لم يصلها والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن تركها" فهل يمكن أن نقول إن المعنى: من جحد وجوبها وصلى لا يكفر؟ لا يمكن أبدا لأننا نقول من جحد وجوبها فهو كافر ولو صلاها ولو كان يصليها مع الجماعة ويبكر إليها وهو يقول إنها سنة فإنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة بإجماع المسلمين اللهم إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام أو ناشئاً في مكان بعيد لا يعرف أحكام الإسلام فإنه يُعلَّم ثم إن أصر على جحد الوجوب كان كافراً.
أيها الإخوة المسلمون اسمحوا لي بالإطالة اسمحوا لي في ذلك لأن المقام خطير والمسألة كبيرة ولقد استقصيت في بحث هذه المسالة وتأملت أدلة الفريقين ولا أدعي لنفسي العصمة ولكن جهد المقل فوجدت أن أدلة القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة ليس فيها دلالة تقاوم أدلة الآخرين لأن هذه الأدلة التي استدلوا بها لا تخلو من واحد من أقسام خمسة: إما أنها لا دلالة فيها أصلا، أو أنها مقيدة بوصف لا يمكن معه ترك الصلاة، أو مقيدة بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو أنها عمومات مخصوصة بأحاديث ترك الصلاة ولكن لا يوجد في واحد منها أن تارك الصلاة ليس بكافر؛ ولذلك نقول: إنها لا تخلو من هذه الأقسام الخمسة: إما أنها لا دلالة فيها أصلا، أو أنها مقيدة بوصف لا يمكن معه ترك الصلاة، أو مقيدة بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو عمومات مخصوصة بأحاديث ترك الصلاة، أو أحاديث ضعيفة لا تقاوم هذه الأدلة، فإذا تبين أن أدلة كفر تارك الصلاة قائمة لا معارض لها أو عورضت بأدلة لا تثبت أو بأدلة لا دلالة فيها تعين القول بمقتضاها أي بمقتضى أدلة كفر تارك الصلاة وأن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة وأنه يحكم عليه بما يحكم على المرتدين عن الإسلام من الأحكام الدنيوية والأخروية فلا تحل ذبيحته ولا يحل له أن يدخل مكة ولا حرمها ولا يحل له أن يتزوج بمسلمة وينفسخ نكاحه منها إن ترك الصلاة بعد العقد فتكون زوجته إذا كان لا يصلي حراما عليه ولا يغسل بعد موته ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين ولا يدعى له بالمغفرة والرحمة ولا يتصدق عنه ولا يكون مع المسلمين يوم القيامة ولا يدخل الجنة معهم نعوذ بالله من ذلك ولا يحل لأهله الذين يعلمون أنه مات على ترك الصلاة ولم يتب أن يقدموه للمسلمين ليصلوا عليه لأنهم بذلك يكونون قد قدموا كافراً يصلي عليه المسلمون.
أيها الإخوة المسلمون، فإذا قال قائل: ما دواء هذه العلة التي ابتلي بها بعض الناس وهي ترك الصلاة؟ فالجواب أن نقول: الأمر ولله الحمد سهل يزول إذا اقبل الإنسان إلى ربه وأناب إليه وعاد من الباب الذي خرج منه فأقام الصلاة وتاب وآمن وعمل عملاً صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيماً اقرؤوا إن شئتم قول الله عز وجل: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 59-63] اللهم أورثنا إياها يا رب العالمين اللهم أورثنا إياها يا رب العالمين اللهم أورثنا إياها يا رب العالمين اللهم اهد هؤلاء القوم الذين تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات اللهم اهدهم إلى الرجوع إليك يا رب العالمين فاتقوا الله عباد الله اتقوا الله تعالى واحفظوا حدوده ولا تأخذكم في الله لومة لائم لا تحابوا في دين الله قريباً ولا بعيداً ولا غنياً ولا فقيراً ولا عدواً ولا صديقاً ولا أميراً ولا وزيراً ولا حقيراً ولا عظيماً فإن ذلك حقيقة الإيمان اللهم اجعلنا ممن يقيمون الصلاة ويؤتون ال+اة ويطيعون الله ورسوله ولا يخشون أحداً إلا الله واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا رب العالمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد سبق لنا من حقوق المسلم على أخيه إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعا فأجبه أما الحق الثالث فهو إذا استنصحك فانصحه أي إذا طلب منك النصيحة في أمر ديني أو أمر دنيوي وجب عليك أن تبذل له النصيحة وهي أن تحب له ما تحب لنفسك فلا تشير عليه بما لا ترى أنه مصلحة ولا تشير عليه بما ترى أنه مضرة بل عليك أن تشير عليه بما ترى أنه مصلحة والاستنصاح يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يقول لك يا أخي: إني أريد كذا وكذا فما نصيحتك؟ فيجب عليك أن تنصحه، الوجه الثاني: أن يعرض لك ولا يصرح فعليك أيضاً أن تنصحه لأن هذا داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(6) وكثيرٌ من الناس يتوقف في النصيحة فيما إذا كان الإنسان يريد أن يعامل شخصاً أو يتزوج من امرأة أو امرأة تتزوج من رجل فيقول لا أحب أن أذكر العيوب التي فيه أخشى أن أكون قد قطعت رزقه وهذا غلط بيِّن غلط عظيم يخالف هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل الواجب عليك إذا استنصحك شخص في معاملة آخر وأنت تعلم أن هذا الآخر ليس أهلا للمعاملة لكونه خؤونا أو معتديا فالواجب عليك أن تنصحه وأن تقول لا تبع عليه لا تعامله ولا حرج عليك في هذا إذا أتاك إنسان يستشيرك في شخص خطب ابنته وأنت تعرف أن هذا الشخص ليس كفئاً في دينه ولا خلقه وجب عليك أن تقول له لا تزوجه لأنه ليس أهلا لذلك وليس عليك في هذا حرج بل هذا هو الواجب عليك أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتته فاطمة بنت قيس رضي الله عنها تخبره أنه خطبها رجلان معاوية بن أبى سفيان وأبو جهم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه" أو أنه كثير الأسفار أو أنه كثير الضرب للنساء كما تؤيده الرواية الثانية: "وأما أبو جهم فضراب للنساء" ثم قال لها: "انكحي أسامة بن زيد"(7) وأسامة بن زيد هو أسامة بن زيد بن حارثة وكان زيد بن حارثة عبداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهدته له أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فأعتقه وكان النبي صلي الله عليه وسلم يعلم أن أسامة كفءٌ في دينه وخلقه فقال لها: "انكحي أسامة" وبين لها عيوب الرجلين اللذين خطباها قالت رضي الله عنها فكرهته أي كرهت أسامة إما لأنه اسود وإما لأنه مولى أو لغير ذلك من الأسباب فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "انكحي أسامة" فنكحت أسامة قالت: فاغتبطت به يعني أنها وجدت فيه خيراً تغبط عليه.
أيها الإخوة يجب عليكم إذا استنصحكم أحد أن تنصحوه وتبينوا الحق ولا يهمنكم أحد وأنتم على خير إذا بينتم العيوب فلكم أجر النصيحة ولكن يبقى مشكلة وهي أنكم إذا سمعتم بشخص خطب من قوم وأنتم تعلمون أن هذا الشخص ليس فيه خير فهل يجب عليكم أن تذهبوا إليهم وتقولوا سمعنا أن فلانا خطب منكم ولكنه ليس بكفء هذا محل تردد عندي هل يجب أو لا يجب فاتقوا الله عباد الله وإذا استنصحكم إخوانكم فانصحوا لهم أحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه"(8) اللهم اجعل منيتنا تأتينا ونحن نؤمن بالله واليوم الآخر يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم يا من بيده ملكوت السماء والأرض توفنا على الإيمان واحشرنا مع النبيين والشهداء والصادقين يا رب العالمين.
أيها الإخوة اعلموا "أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة يعني في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"(9) عليكم بالجماعة اجتمعوا على الحق تعاونوا على البر والتقوى تآمروا بالمعروف تناهوا عن المنكر لتكونوا أمة واحدة كما أراد الله أن تكونوا أمة واحدة وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فإن "من صلى عليه مرة واحدة صلى الله بها عليه عشرا"(10) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرا وباطنا اللهم توفنا على ملته اللهم احشرنا في زمرته اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أتباع المرسلين اللهم ارض عن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين الهم ارض عنا معهم اللهم ارض عنا معهم اللهم ارض عنا معهم كما رضيت يا رب العالمين ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] عباد الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91] فهو يعلم بما تفعلون ويعلم ما في قلوبكم واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه اللهم إنا نسألك أن تجعل بواطننا خيراً من ظواهرنا وأعذنا من النفاق كله دقه وجله يا رب العالمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
------------------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد (20326)، والبخاري (336)، ومسلم (237)، وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان (2546)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/48) (12)، من حديث عبد الله بن شقيق العيدي رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (6805)، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية (3240)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(4) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصلاة (204)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/546)، والترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، والحاكم في المستدرك (1/7)، من حديث بريدة رضي الله عنه.
(6) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (82)، والنسائي في كتاب البيعة (4126، 4127)، والإمام أحمد في مسنده (16332)، وأبو داود في الأدب (4293)، والدارمي في الرقاق (2626)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (26057)، ومسلم في كتاب الطلاق (2709)، والترمذي في كتاب النكاح (1054)، وفي الطلاق واللعان (1100)، والنسائي في كتاب النكاح (3170)، ومالك في الموطأ في كتاب النكاح (1064)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1859)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(8) أخرجه الإمام أحمد (6502)، ومسلم (3421)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(9) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الجمعة (1435)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(10) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الصلاة (577)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.