حكم تارك الصلاة
الشيخ علي الحلبي
بقلم العلامة المحدث
محمد ناصر الدين الألباني
قام على نشره
علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد
الحلبي الأثري
--------------------
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن مما " لا يختلف ]فيه [المسلمون ، أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب ، وأكبر الكبائر ، وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس ، وأخذ الأموال ، ومن إثم الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وأنه معرض لعقوبة الله وسخطه ، وخزيه في الدنيا والآخرة "[1] .
وقد وردت الآيات القرآنية تترى في تعظيم قدر الصلاة ، وبيان شديد إثم تاركها أو المتهاون بها :
قال تعالى :
]فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ، إلا من تاب ..[[2] .
وقال سبحانه :
] فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون [[3].
وقال جل شأنه :
] ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين[ [4] .
... إلى غير ذلك من آيات كريمات ، تقرع الآذان ، وتصك الأسماع .
وقد جاءت أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيها عن عظيم الذنب الذي يتلبس به تارك الصلاة ، أو المتهاون بها ، أو المتخاذل عنها :
فقال صلى الله عليه وسلم :
" بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة "[5] .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر "[6] .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله "[7] .
قلت: وإزاء هذه النصوص القرآنية ، والنبوية: اختلف الأئمة والعلماء في تكفير متعمد ترك الصلاة :
قال الإمام البغوي في " شرح السنة " ( 2 / 178 ـ 179 ) :
" اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمداً ... " .
ثم ذكر طائفة من أسماء المختلفين في ذلك .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1 / 369 ) تعليقاً على حديث جابر المتقدم إيراده :
" الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر ، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكراً لوجوبها ، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة .
وإن كان تركه لها تكاسلاً مع اعتقاده لوجوبها – كما هو حال كثير من الناس [8] - فقد اختلف الناس في ذلك ... " .
ثم نقل – بعد ذلك نبذاً من الخلاف – مشهور قول " الجماهير من السلف والخلف – منهم مالك والشافعي – إلى أنه لا يكفر ، بل يفسق ، فإن تاب وإلا قتلناه حداً ، كالزاني المحصن ..." إلخ ..
وقال ابن حبان في " صحيحه " ( 4 / 324 ) :
" أطلق المصطفى صلى الله عليه وسلم اسم الكفر على تارك الصلاة؛إذ ترك الصلاة أول بداية الكفر ، لأن المرء إذا ترك الصلاة واعتاده:ارتقى منه إلى ترك غيرها من الفرائض، وإذا اعتاد ترك الفرائض : أداه ذلك إلى الجحد ، فأطلق صلى الله عليه وسلم النهاية التي هي آخر شعب الكفر على البداية التي هي أول شعبها ، وهي ترك الصلاة " .
ثم قال رحمه الله مبوباً : " ذكر خبر يدل على صحة ما ذكرنا : أن العرب تطلق اسم المتوقع من الشيء في النهاية على البداية " ، وبعد إيراده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المِراءُ في القرآن كفر " [9] ، قال :
" إذا مارى المرء في القرآن ؛ أداه ذلك – إن لم يعصمه الله – إلى أن يرتاب في الآي المتشابه منه ، فأطلق صلى الله عليه وسلم اسم الكفر – الذي هو الجحد – على بداية سببه الذي هو المِراءُ " .
فترك الصلاة شأن كبير ، وأمر خطير ، يودي - عياذاً بالله –إلى الردة عن الدين ، واللحوق بالكفار والمشركين .
وإذ اختلف العلماء والأئمة ، في هذه المسألة المهمة: كان الواجب على طلاب العلم التأني والتوقي ، لا أن يعالجوا كل تارك للصلاة بالوصم بالتكفير والردة ، بكل غلاظة وشدة ؛ إذ " [10] الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ، ودخوله في الكفر ؛ لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة ، المروية من طريق جماعة من الصحابة [11] أن : " من قال لأخيه : يا كافر ؛ فقد باء بها أحدهما " ... وفي لفظ في " الصحيح " : " ... فقد كفر أحدهما " .
ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر ، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير .
وقد قال الله عز وجل : ] ولكن من شرح بالكفر صدراً [[12] ؛ فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به ، وسكون النفس إليه "[13] .
نعم ؛ قد تدفع الغيرة والعاطفة بعض أهل العلم ، أو طلابه إلى الحكم بتكفير كل تارك للصلاة ، دون اعتبار لجحود أو +ل ! حرصاً – في ظنهم – على الترهيب الشديد من هذا العمل الجلل ، ورغبة – كما توهموا – في درء أي تساهل في الصلاة وحكمها ( قد ) يؤدي إلى التسيب في هذا الركن الإسلامي العظيم !
وقد يستدل ( بعض ) من هؤلاء العلماء أو الطلاب على ذلك بشيء من الأدلة القرآنية أو النبوية التي سبقت أو غيرها ، لكن دون جمع بين الدلائل الواردة في هذه المسألة سلباً أو إيجاباً – حيناً – أو بتقصير في هذه الجمع – أحياناً - ! !
ولست في هذه المقدمة – فضلا عما سيأتي في رسالة شيخنا – بمستوعب القول في دلائل المختلفين في هذه المسألة العظيمة ، وتحقيق مدارك الخلاف والنظر فيها ، فإن لهذا موضعاً آخر [14] ، ولكني أكتفي هنا بذكر تنبيهات علمية مهمة قد تغيب عن عدد من طلاب العلم ، فأقول :
أولاً : قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل في وصيته لتلميذه الإمام الحافظ مسدد بن مسرهد [15] :
" ... ولا يُخرِجُ الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم ، أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها ، فإن تركها +لاً أو تهاوناً : كان في مشيئة الله ؛ إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ... " [16] .
قلت :
وهذا هو صريح ما جاءنا في الكتاب والسنة بعموم الحكم ، وخصوص مسألة ترك الصلاة :
قال الله تعالى :
] إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" خمس صلوات كتبهن الله على العباد ، فمن جاء بهن ، ولم يضيع منهم شيئاً استخفافاً بحقهن ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء أدخله الجنة " [17] .
ثانياً : قال الإمام محمد بن عبد الوهاب،رحمه الله تعالى – كما في "الدرر السنية" (1/70) - ، جواباً على من سأله عما يُكفَّرُ الرجل به ؟ وعما يُقاتل عليه ؟ فقال رحمه الله :
" أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ، ثم الأركان الأربعة ؛ إذا أقر بها وتركها تهاوناً ، فنحن وإن قاتلناه على فعلها ، فلا نكفره بتركها ، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها +لاً من غير جحود ، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم ؛ وهو الشهادتان " .
ثالثاً : يستدل بعض أهل العلم في تكفيرهم تارك الصلاة بآية من القرآن العظيم يجعلونها عماد أدلتهم في التكفير ؛ وهي قوله
جل شأنه :
] فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا ال+اة فإخوانكم في الدين [ [18] .
قالوا : وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين إقام الصلاة ، فمن لم يقم بها ، فلا يعد أخاً لنا في الدين !
فالجواب على هذا الاستدلال من وجهين :
الأول : قال الإمام ابن عطية في " المحرر الوجيز " ( 8 / 139 – طبع المغرب ) :
" تابوا : رجعوا عن حالهم ، والتوبة منهم تتضمن الإيمان " .
فإقامة الصلاة مشروطة ومسبوقة بالتوبة التي هي متضمنة للإيمان ، إذ ذكر الله التوبة قبل ذكر الصلاة أو ال+اة ، فدل ذلك على أنها هي قاعدة الأصل في الحكم بأخوة الدين .
لذا قال الطبري في " جامع البيان " ( 18 / 86 ) :
" يقول جل ثناؤه : فإن رجع هؤلاء المشركون – الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم – عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان به وبرسوله ، وأنابوا إلى طاعته ، وأقاموا الصلاة المكتوبة ، فأدوها بحدودها، وآتوا ال+اة المفروضة أهلها: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به ، وهو الإسلام " .
ويدل على ما سبق :
الوجه الثاني :
أنه قرن بالصلاة الزكاة ، فهل من تاب وأقام الصلاة لكنه لم ي+ : لا يكون أخاً في الدين ، عليه ما على المسلمين ، وله ما للمسلمين ؟!
إن قيل : لا ، بل هو أخ في الدين !
قلنا : ما هو دليل التفريق في الآية بين الصلاة وال+اة ، وهما مذكورتان بالترتيب والتساوي عقيب التوبة ؟
وإن قيل : ليس أخاً في الدين !!
قلنا : هذا باطل من القول بيقين ، ليس عليه أي دليل !
رابعاً : عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب ، حتى لا يدرى ما صيام ، ولا صلاة ، ولا نسك ، ولا صدقة .
وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، وتبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة :" لا إله إلا الله " فنحن نقولها " .
رواه ابن ماجة ( 4049 ) والحاكم ( 4 / 473 ) من طريق أبي معاوية ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً .
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وصححه – أيضاً – البوصيري في " مصباح الزجاجة " ، وقواه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 13 / 16 ) .
وقد أعل [19] ( بعضهم ) الحديث وضعفه ؛ لكلام في أبي معاوية ! وهو غير ضاره .
ومع ذلك فقد خفيت ( عليهم ) متابعة جليلة :
فقد روى الحديث عن أبي مالك : أبو عوانة بإسناده ومتنه ، كما قال البوصيري في " المصباح "
( 3 / 254 ) .
وأبو عوانة : ثقة ثبت رضي .
وقال شيخنا الألباني في كتابه المعطار " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ( 1 / 130 – 132 ) تعليقاً على هذا الحديث الصحيح :
" هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة ؛ وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيء من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .
ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الصلاة خاصة ، مع إيمانه بمشروعيتها ، فالجمهور على أن لا يكفر بذلك ، بل يفسق ، وذهب أحمد ] فيما يذكر عنه [[20] إلى أنه يكفر بتركها ، وأنه يقتل ردة ، لا حداً .
وقد صح عن الصحابة أنهم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي والحاكم [21].
وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور ، وأن ما ورد عن الصحابة ليس نصاً على أنهم كانوا يريدون بـ ( الكفر ) هنا الكفر الذي يخلد صاحبه في النار ولا يحتمل أن يغفره الله له ، كيف ذلك وحذيفة بن اليمان – وهو من كبار أولئك الصحابة – يرد على صلة ابن زفر وهو يكاد يفهم الأمر على نحو فهم أحمد له ، فيقول : " ما تُغني عنهم لا إله إلا الله ، وهم لا يدرون ما صلاة ... " فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه : " يا صلة تنجيهم من النار " ثلاثاً .
فهذا نص من حذيفة رضي الله عنه على أن تارك الصلاة ، - ومنها بقية الأركان [22] - ليس بكافر ، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة .
فاحفظ هذا فإنك قد لا تجده في غير هذا المكان .
ثم وقفت على " الفتاوى الحديثية " ( 84 / 2 ) للحافظ السخاوي ، فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة وهي مشهورة معروفة :
" ولكن كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق تاركها جاحداً لوجوبها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين ، لأنه يكون حينئذ كافراً مرتداً بإجماع المسلمين ، فإن رجع إلى الإسلام قبل منه ، وإلا قتل .
وأما من تركها بلا عذر ، بل تكاسلاً ، مع اعتقاده بوجوبها ، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه لا يكفر ، وأنه – على الصحيح أيضاً – بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها الضروري – كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس ، أو المغرب حتى يطلع الفجر – يستتاب كما يستتاب المرتد ، ثم يقتل إن لم يتب ، ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه .
ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر في بعض أحكامه ، وهو وجوب العمل ، جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صح أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خمس صلوات كتبهن الله – فذكر الحديث ، وفيه : " إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " [23]
، وقال أيضاً : " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " [24] ، إلى غير ذلك .
ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة ويورثونه ، ولو كان كافراً لم يغفر له ، ولم يرث ولم يورث " اهـ .
خامساً : يجيب بعض أهل العلم على عدد من الأحاديث الواردة في هذه المسألة مما يفيد شمول عفو الله سبحانه ومغفرته ورحمته لبعض من تاركي الصلاة التي هي دون الشرك – كما قال جل شأنه : ] إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ - كمثل حديث البطاقة [25] ، وحديث الشفاعة الآتي وغيرها من الأحاديث ، بأن يقول ( هؤلاء ) : " هذه أحاديث ( عامة ) وأحاديث تكفير تارك الصلاة ( خاصة ) " !
أقول : ولو ع+ ( هؤلاء ) – وفقهم الله – قولهم لكانوا أقرب إلى الصواب ! كما هو معروف من قاعدة الوعد والوعيد [26] عند أهل السنة فيما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع عدة من كتبه كـ " مجموع الفتاوى " ( 4 / 484 ) ، ( 8 / 270 ) ، ( 11 / 648 ) ، ( 23 / 305 ) وغيره .
وخلاصة القول في هذه القاعدة :
أن نصوص الوعيد داخلة تحت مشيئة الله سبحانه ، إما عفواً ، وإما تنفيذاً .
وأما نصوص الوعد فإن الله منفذها ، كما كتب – سبحانه - على نفسه [27] .
وفي ذلك يقول من يقول من أهل العلم مستدلاً على أصل هذه القاعدة :
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي [28]
وأنظر " شرح العقيدة الطحاوية " ( ص 318 ) .
سادساً : من أعجب العجب – بعد ما سبق – أن يقول ( البعض ) واصفاً القول بعدم تكفير تارك الصلاة ، مع إثبات فسقه وفجوره : بأنه إرجاء ؟!
فما هو الإرجاء عند هؤلاء ؟!
وما هي حدوده [29] ؟! وما هي ضوابطه ؟!
.. وبعد هذا السابق كله ؛ فإننا نؤكد ونبين بكل صراحة ووضوح أن تارك الصلاة مجرم فاجر ، وآثم فاسق ، يخشى عليه – عياذ بالله – من الردة والكفر ، والخروج من الإسلام والشرك ، إن لم يسارع بالتوبة والإنابة ، والاستغفار والهداية ، أو إن لم يتغمده الله – سبحانه – بعفوه وعنايته .
وأخيرا :
" فإن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى ، وقد تنازع فيها أهل العلم سلفاً وخلفاً " [30] ، فالبحث فيها يجب أن يكون بروح طيبة وعقل منير، ونظر سديد ، بعيد عن التعصب ، مع اطراح التقليد ، إذ هذا كله يوصل إلى معرفة الحق ، والوقوف عليه ، والدعوة إليه .
وهذه الرسالة [31] لشيخنا العلامة المحدث المحقق محمد ناصر الدين الألباني – حفظه الله سبحانه – مثال حسن على ما قدمته ، نقدمها للإخوة القراء ، رغبة في نشر العلم ، وطمعاً في تحصيل الثواب ، واستجابة لأمر الله سبحانه بالرد – عند الاختلاف – إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم :
] ... فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً [ .
فلا يمنعن أحداً من قارئي هذه الرسالة إلفُهُ أو عادته ، أو ما نشأ عليه أو تلقنه : من أن يقبل الحق وينصاع إليه ، ويجاهد دونه ، إذ الحق أغلى ما يطلب ، وأعز ما يرغب .
فالله العظيم نسأل التوفيق والسداد ، والرشد والرشاد ، وهداية من صل من العباد ، وقصم من تلبس بالكفر والعناد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب :
علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد
الحلبي الأثري
يوم الأربعاء : السابع عشر من شهر رجب
سنة اثنتي عشرة وأربع مئة وألف للهجرة .
مقدمة المؤلف
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
أما بعد : فهذا بحث علمي لطيف ، في تخريج و شرح حديث نبوي شريف ، أصله من أحاديث المجلد السابع من كتابي : (( سلسلة الأحاديث الصحيحة ))([32]) ، و رأيت إفراده بالنشر لأهميته و كبير فائدته ، و ذلك بعد أن رآه بعض إخواننا ، فاقترح علي نشره مفردا ، من باب الاستعجال بالخير ، فوافق ذلك ما عندي ، فدفعت صورة منه إلى صاحبنا و تلميذنا الشاب علي بن حسن الحلبي ليقوم بتهيئته للنشر ، و إعداده للطبع ، مع كتابة مقدمة علمية له ، تقرب فوائده للقراء الأفاضل .
و قد فعل ذلك كله – جزاه الله خيرا – ؛ ثم أشرف على طباعته ، و تصحيحه ، و مراجعته .
و في آخر هذه المقدمة الوجيزة ، أسأل الله سبحانه أن ينفع بهذا البحث العلمي من يقرؤه و ينظر فيه ، إنه سميع مجيب .
فأقول و بالله التوفيق :
متن الحديث :
روى الإمام معمر بن راشد في (( الجامع )) ( 11 / 409 – 411 ، الملحق بـ (( مصنف عبد الرزاق([33]) )) ) عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
(( إذا خلص المؤمنون من النار و أمنوا ، فـ [ و الذي نفسي بيده ] ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار .
قال : يقولون : ربنا ! إخواننا كانوا يصلون معنا ، و يصومون معنا ، و يحجون معنا ، [ و يجاهدون معنا ] ، فأدخلتهم النار !
قال : فيقول : اذهبوا ، فأخرجوا من عرفتم منهم .
فيأتونهم ؛ فيعرفونهم بصورهم ، لا تأكل النار صورهم ، [ لم تغش الوجه ] ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، و منهم من أخذته إلى كعبيه([34]) ، [ فيخرجون منها بشرا كثيرا ] ، فيقولون : ربنا ! قد أخرجنا من أمرتنا .
قال : ثم [ يعودون فيتكلمون فـ ] يقول : أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينارمن الإيمان .
[ فيخرجون خلقا كثيرا ] ثم [ يقولون : ربنا ! لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا.
ثم يقول : ارجعوا ، فـ ] من كان في قلبه وزن نصف دينار [ فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا ... ] ..
حتى يقول : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة [ فيخرجون خلقا كثيرا ] .
قال أبو سعيد :
فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية :
] إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما [([35]).
قال : فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا ، فلم يبق في النار أحد فيه خير !
قال : ثم يقول الله : شفعت الملائكة ، و شفعت الأنبياء ، و شفع المؤمنون ، و بقي أرحم الراحمين .
قال : فيقبض قبضة من النار – أو قال : قبضتين – ناسا لم يعملوا خيرا قط ، قد احترقوا حتى صاروا حمما .
قال : فيؤتى بهم إلى ماء يقال له : ( الحياة ) ، فيصب عليهم ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، [ قد رأيتموها إلى جانب الصخرة ، و إلى جانب الشجرة ، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر ، و ما كان منها إلى الظل كان أبيض ] .
قال : فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ ، و في أعناقهم الخاتم ( و في رواية : الخواتم ) ، عتقاء الله .
قال : فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فما تمنيتم و رأيتم من شيء فهو لكم [ و مثله معه ]([36]) ، [ فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن ، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ، و لا خير قدموه] .
قال : فيقولون : ربنا ! أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين !
قال : فيقول : فإن لكم عندي أفضل منه !
فيقولون : ربنا ! و ما أفضل من ذلك ؟
[ قال : ] فيقول : رضائي عنكم ، فلا أسخط عليكم أبدا )) .
تخريجه :
و إسناده صحيح على شرط الشيخين .
و هو من رواية عبد الرزاق عن معمر :
و من طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد ( 3 / 94 ) و النسائي ( 2 / 271 ) و ابن ماجة ( رقم : 60 ) و ابن خزيمة في (( التوحيد )) ( ص 184 و 201 و 212 ) و ابن نصر المروزي في (( تعظيم قدر الصلاة )) ( رقم : 276 ) .
و تابع عبد الرزاق :
محمد بن ثور ، عن معمر ، به ، لم يسق لفظه ، و إنما قال : بنحوه .
يعني حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه .
و تابع معمرا جماعة :
أولا: سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، به ، أتم منه ، و أوله : (( هل تضارون في رؤية الشمس و القمر ... )) الحديث بطوله .
أخرجه البخاري ( 7439 ) و مسلم ( 1 / 114 – 117 ) و ابن خزيمة أيضا ( ص 201 ) و ابن حبان ( 7333 – الإحسان ) .
ثانيا : حفص بن ميسرة ، عن زيد :
أخرجه مسلم ( 1 / 114 – 117 ) ، و كذا البخاري ( 4581 ) و لكنه لم يسقه بتمامه ، و كذا أبو عوانة ( 1 / 168 – 169 ) .
ثالثا : هشام بن سعد ، عن زيد :
أخرجه أبو عوانة ( 1 / 181 – 183 ) بتمامه ، و ابن خزيمة ( ص 200 ) ، و الحاكم ( 4 / 582 – 584 ) و صححه ، و كذا مسلم ( 1 / 17 ) إلا أنه لم يسق لفظه ، و إنما أحال به على لفظ حديث حفص بن ميسرة ، نحوه .
و تابع زيدا :
سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري – أحد بني ليث ، و كان في حجر أبي سعيد – قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ...
فذكره نحوه مختصرا ، و فيه الزيادة الثالثة .
أخرجه أحمد ( 3 / 11 – 12 ) و ابن خزيمة ( ص 211 ) و ابن أبي شيبة في (( المصنف )) ( 13 / 176 / 16039 ) و عنه ابن ماجة ( 4280 ) و ابن جرير في (( التفسير )) ( 16 / 85 ) و يحيى بن صاعد في (( زوائد الزهد )) ( ص 448 / 1268 ) ، و الحاكم ( 4 / 585 ) و قال :
(( صحيح الإسناد على شرط مسلم )) !
و بيض له الذهبي !!
و إنما هو حسن فقط ، لأن فيه محمد بن إسحاق ، و قد صرح بالتحديث .
فقهه :
بعد تخريج هذا الحديث هذا التخريج الذي قد لا تراه في مكان آخر ، و بيان أنه متفق عليه بين الشيخين و غيرهما من أهل (( الصحاح )) و (( السنن )) و (( المسانيد )) ، أقول :
في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة ، منها : شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم ، ثم بغيرهم ممن هو دونهم ، على اختلاف قوة إيمانهم .
ثم يتفضل الله تبارك و تعالى على من بقي في النار من المؤمنين ، فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه ، و لا خير قدموه .
و لقد توهم ( بعضهم ) أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار !
قال الحافظ في (( الفتح )) ( 13 / 429 ) : (( و رد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين ، كما تدل عليه بقية الأحاديث )) .
قلت : منها قوله صلى الله عليه و سلم في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضا :
(( فيقال : يا محمد ! ارفع رأسك ، و قل تسمع ، و سل تعطه ، و اشفع تشفع.
فأقول : يا رب ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله .
فيقول : و عزتي و جلالي و كبريائي و عظمتي لأخرجن منها من قال : لا إله إلا الله )) .
متفق عليه ، و هو مخرج في (( ظلال الجنة )) ( 2 / 296 ) .
و في طريق أخرى عن أنس :
(( ... و فرغ الله من حساب الناس ، و أدخل من بقي من أمتي النار ، فيقول أهل النار : ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز و جل لا تشركون به شيئا ؟
فيقول الجبار عز و جل : فبعزتي لأعتقنهم من النار .
فيرسل إليهم ، فيخرجون و قد امتحشوا ، فيدخلون في نهر الحياة ، فينبتون ... )) الحديث .
أخرجه أحمد و غيره بسند صحيح ، و هو مخرج في (( الظلال )) تحت الحديث ( 844 ) ، و له فيه شواهد ( 843 – 843 )([37]) ، و في (( الفتح )) ( 11 / 455 ) شواهد أخرى .
و في الحديث([38]) رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله صلى الله عليه و سلم فيه : (( لم تغش الوجه )) ، و نحوه الحديث الآتي بعده : (( إلا دارات الوجوه )) : (( أن من كل من مسلما و لكنه كان لا يصلي لا يخرج [ من النار ] إذ لا علامة له )) !
و لذلك تعقبه الحافظ بقوله ( 11 / 457 ) :
(( لكنه يحمل على أنه يخرج في القبضة ، لعموم قوله : (( لم يعملوا خيرا قط )) ، و هو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في ( التوحيد ) )) .
يعني هذا الحديث .
و قد فات الحافظ – رحمه الله – أن في الحديث نفسه تعقبا على ابن أبي جمرة من وجه آخر ، و هو أن المؤمنين لما شفعهم الله في إخوانهم المصلين و الصائمين و غيرهم في المرة الأولى ، فأخرجوهم من النار بالعلامة ، فلما شفعوا في المرات الأخرى ، و أخرجوا بشرا كثيرا ، لم يكن فيهم مصلون بداهة ، و إنما فيهم من الخير كل حسب إيمانهم .
و هذا ظاهر جدا لا يخفى على أحد إن شاء الله .
مباحث و مناقشات :
و على ذلك فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلما يشهد أن لا إله إلا الله : أنه لا يخلد في النار مع المشركين .
ففيه دليل قوي جدا أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله : ] إن الله لا يغفر أن يشرك به ، و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ .
و قد روى الإمام أحمد في (( مسنده )) ( 6 / 240 ) حديثا صريحا في هذا من رواية عائشة رضي الله عنها ، مرفوعا بلفظ : (( الدواوين عند الله عز و جل ثلاثة ... )) الحديث ...
وفيه :
" ... فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال عز وجل : ] من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [ [39] .
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ... " الحديث ...
و قد صححه الحاكم ( 4 / 576 ) .
و هذا و إن كان غير مسلم عندي لما بينته في (( تخريج الطحاوية )) ( ص 367 – الطبعة الرابعة ) ، فإنه يشهد له هذا الحديث الصحيح ، فتنبه .
إذا عرفت ما سلف – يا أخي المسلم – فإن عجبي لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة ألا و هي : هل يكفر تارك الصلاة +لا أم لا ؟
لقد غفلوا جميعا([40]) – فيما اطلعت – عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين و غيرهما على صحته !
لم يذكره من هو حجة له ، و لم يجب عنه من هو حجة عليه ! و بخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم (( الصلاة )) ، وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه ؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير ؛ إلا مختصرا اختصارا مخلا ، لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضا ؛ فقد قال([41]) رحمه الله :
(( و في حديث الشفاعة : يقول الله عز و جل : (( و عزتي و جلالي ، لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله )) ؛ و فيه : فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط )) .
قلت : و هذا السياق ملفق من حديثين :
فالشطر الأول منه : هو في آخر حديث أنس المتفق عليه و قد سبق أن ذكرت ( ص 33 ) الطرف الأخير منه .
و الشطر الآخر هو في حديث الكتاب :
(( ... فيقبض قبضة من النار ناسا لم يعملوا لله خيرا قط ... )) .
و أما أن اختصاره اختصار مخل ، فهو واضح جدا إذا تذكرت أيها القارئ الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ ( ص 34 )([42]) متمما به تعقيبه على ابن أبي جمرة ؛ مما يدل على أن شفاعة المؤمنين كانت لغير المصلين في المرة الثانية و ما بعدها ، و أنهم أخرجوهم من النار .
فهذا نص قاطع في المسألة ينبغي به أن يزول النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة التي منها عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية ؛ و بخاصة في هذا الزمان الذي توسع فيه بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين لإهمالهم القيام بما يجب عليهم عمله ، مع سلامة عقيدتهم ؛ خلافا للكفار الذين لا يصلون تدينا و عقيدة ، و الله سبحانه و تعالى يقول : ] أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [ ؟!
.. لما تقدم كنت أحب لابن القيم رحمه الله أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير ، و أن يجيب عنه إن كان لديه – رحمه الله – جواب ، و بذلك يكون قد أعطى البحث و الإنصاف الفريقين دون تحيز لفئة .
نعم ؛ نه لمما يجب علي أن أنوه به أنه – رحمه الله – عقد فصلا خاصا([43]) (( في الحكم على الفريقين ، و فصل الخطاب بين الطائفتين )) يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين فهما صحيحا ، فإنه حقق في تحقيقا رائعا ما هو مسلم به عند العلماء أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة .
فمن المفيد أن أقدم إلى القارئ فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه ، ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح ، و يؤيد المذهب الرجيح .
لقد أفاد – رحمه الله – ([44]) (( أن الكفر نوعان :
كفر عمل .
و كفر جحود و اعتقاد ...
و أن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان ، و إلى ما لا يضاده ؛ فالسجود للصنم ، و الاستهانة بالمصحف ، و قتل النبي و سبه يضاد الإيمان .
و أما الحكم بغير ما أنزل الله ، و ترك الصلاة ، فهو من الكفر العملي قطعا )) .
( قلت : هذا الإطلاق فيه نظر ، إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحيانا ، و ذلك إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته ، كاستهزائه بالصلاة و المصلين ، و كإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها ، كما سيأتي ، فتذكر هذا ، فإنه مهم ) .
ثم قال رحمه الله :
(( و لا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله و رسوله عليه ، و لكن هو كفر عمل ، لا كفر اعتقاد .
و قد نفى رسول الله صلى الله عليه و سلم الإيمان عن الزاني ، و السارق ، و شارب الخمر ، و عمن لا يأمن جاره بوائقه ، و إذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل ، و انتفى عنه كفر الجحود و الاعتقاد )) .
( قلت : لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر ، فيقال مثلا : من زنى فقد كفر ، فضلا عن أنه لا يجوز أن يقال : فهو كافر ، حتى على تارك الصلاة – أي أن يقال : كافر – ، و على غيره ممن وصف في الحديث بالكفر ، وقوفا مع النص ، و من باب أولى أن لا يقال : كافر حلال الدم !! ) .
ثم قال – رحمه الله – بعد أن ذكر الحديث الصحيح : (( سباب المسلم فسوق ، و قتاله كفر ))([45])
(( و معلوم أنه صلى الله عليه و سلم إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي ، و هذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية و الملة بالكلية ، كما لم يخرج الزاني و السارق من الملة ، و إن زال عنه اسم الإيمان .
و هذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله ، و بالإسلام و الكفر ، و لوازمهما )) .
ثم ذكر الأثر المعروف [46]عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : ] و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ قال : (( ليس بالكفر الذي يذهبون إليه )) .
( قلت : زاد الحاكم : (( إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ، كفر دون كفر )) ، و صححه هو ( 2 / 313 ) و الذهبي .
و هذا قاصمة ظهر جماعة التكفير ، و أمثالهم من الغلاة ) .
ثم قال ابن القيم رحمه الله :
(( و المقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر ، و سلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه و يده ، فلا يسمى تارك الصلاة مسلما و لا مؤمنا ، و إن كان معه شعبة من شعب الإسلام أو الإيمان )) .
( قلت : نفي التسمية المذكورة عن تارك الصلاة : فيه نظر ، فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية مؤمنة في الآية المعروفة : ] و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... [ ، مع قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث المتقدم : (( ... و قتاله كفر )) ، فكما يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلا عن اسم المسلم ، فكذلك تارك الصلاة ، إلا إن كان يقصد بذلك النفي أنه مسلم كامل ! و ذلك بعيد ) .
قال :
(( نعم ؛ يبقى أن يقال : فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار ؟
فيقال : ينفعه إن لم يكن المتروك شرطا في صحة الباقي و اعتباره .
و إن كان المتروك شرطا في اعتبار الباقي لم ينفعه .
فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان ؟
هذا سر المسألة )) .
قلت : ثم أشار – رحمه الله – إلى الأدلة التي كان ذكرها للفريق الأول المكفر ، ثم قال : (( و هي تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة )) .
فأقول : يبدو لي جليا أن ابن القيم بعد بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي و الكفر الاعتقادي ، و أن المسلم لا يخرج من الملة بكفر عملي ، لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة ، مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم ، لأنها كلها لا تدل على الكفر العملي([47]) !
و لذلك ؛ لجأ أخيرا إلى أن يتساءل : (( هل ينفعه إيمانه ؟ و هل الصلاة شرط لصحة الإيمان ؟ )) .
قلت : إن كل من تأمل في جوابه على هذا التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالصلاة ! فأين الجواب عن كون الصلاة شرطا لصحة الإيمان ؟
أي : ليس فقط شرط كمال ، فإن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السنة([48]) ، خلافا للخوارج و المعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار ، مع تصريح الخوارج بتكفيرهم .
فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان ، و أن تاركها مخلد في النار ؛ فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا ، و أخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا ؛ كما تقدم بيانه .
و لعل ابن القيم – رحمه الله – بحيدته عن ذاك الجواب ، أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة ، و أنه لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى .
و عليه ؛ فإن تارك الصلاة +لا لا يكفر عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أنه كفر كفرا اعتقاديا ؛ فهو في هذه الحالة – فقط – يكفر كفرا يخرج به من الملة ، كما تقدمت الإشارة بذلك مني ، و هو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل ، فإنه قال :
(( و من العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ، و دعي إلى فعلها على رؤوس الملأ ، و هو يرى بارقة السيف على رأسه ، و يشد للقتل ، و عصبت عيناه ، و قيل له : تصلي و إلا قتلناك ؟! فيقول : اقتلوني ، و لا أصلي أبدا ! )) .
قلت : و على مثل هذا المصر على الترك و الامتناع عن الصلاة ، مع تهديد الحاكم له بالقتل : يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك للصلاة .
و بذلك تجتمع أدلتهم مع أدلة المخالفين ، و يلتقون على كلمة سواء ؛ أن مجرد الترك لا يكفر ، لأنه كفر عملي ، لا اعتقادي كما تقدم عن ابن القيم .
و هذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، - أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل – فقال في (( مجموع الفتاوى )) ( 22 / 48 ) ؛ و قد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر : هل هو مسلم في تلك الحال ؟!
فأجاب – رحمه الله – ببحث طويل ملئ علما ، لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا ، فإنه بعد أن حكى أن تارك الصلاة يقتل عند جمهور العلماء ؛ مالك و الشافعي و أحمد ، قال :
(( و إذا صبر حتى يقتل ، فهل يقتل كافرا مرتدا ، أو فاسقا كفساق المسلمين؟
على قولين مشهورين ، حكيا روايتين عن أحمد ، فإن كان مقرا بالصلاة في الباطن ، معتقدا لوجوبها ، يمتنع([49]) أن يصر على تركها حتى يقتل و لا يصلي ، هذا لا يعرف من بني آدم و عادتهم ، و لهذا ؛ لم يقع قط في الإسلام ، و لا يعرف أن أحدا يعتقد وجوبها ، و يقال له : إن لم تصل و إلا قتلناك ، و هو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب ؛ فهذا لم يقع قط في الإسلام .
و متى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرا بوجوبها ؛ و لا ملتزما بفعلها ، فهذا كافر باتفاق المسلمين ، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ، و دلت عليه النصوص الصحيحة ، كقوله صلى الله عليه و سلم : (( ليس بين العبد و بين الكفر إلا ترك الصلاة )) ، رواه مسلم [50].
فمن كان مصرا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط ، فهذا لا يكون قط مسلما مقرا بوجوبها([51])، فإن اعتقاد الوجوب ، و اعتقاد أن تاركها يستحق القتل ، هذا داع تام إلى فعلها ، و الداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور .
فإذا كان قادرا و لم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد ، و الاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل .
لكن هذا قد يعارضه أحيانا أمور توجب تأخيرها ، و ترك بعض واجباتها ، و تفويتها أحيانا .
فأما من كان مصرا على تركها ، لا يصلي قط ، و يموت على هذا الإصرار و الترك فهذا لا يكون مسلما .
لكن أكثر الناس يصلون تارة ، و يتركونها تارة ، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها ، و هؤلاء تحت الوعيد [52] ، و هم الذين جاء فيهم الحديث الذي في (( السنن )) [ من ] حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
(( خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم و الليلة ، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ، و من لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله ، إن شاء عذبه ، و إن شاء غفر له ))([53]).
فالمحافظ عليها : الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى .
و الذي يؤخرها([54]) أحيانا عن وقتها ، أو يترك واجباتها ، فهذا تحت مشيئة الله تعالى ، و قد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث([55]) ... ))
و على هذا المحمل يدل كلام الإمام أحمد [56] أيضا الذي شهر عنه بعض أتباعه المتأخرين القول بتكفير تارك الصلاة دون تفصيل .
و كلامه يدل على خلاف ذلك ، بحيث لا يخالف هذا الحديث الصحيح ، كيف و قد أخرجه في (( مسنده )) ، كما أخرج حديث عائشة بمعناه كما تقدم ؟!
فقد ذكر ابنه عبد الله في (( مسائله )) ( ص 55 ) قال : (( سألت أبي – رحمه الله – عن ترك الصلاة متعمدا ؟
قال : (( ... و الذي يتركها لا يصليها ، و الذي يصليها في غير وقتها ؛ أدعوه ثلاثا ، فإن صلى و إلا ضربت عنقه ، هو عندي بمنزلة المرتد ... )) .
قلت : فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة ، و إنما بامتناعه عن الصلاة ، مع علمه بأنه يقتل إن لم يصل ، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة ، فهو الذي دل على أن كفره كفر اعتقادي ، فاستحق القتل .
و نحوه ما ذكره المجد ابن تيمية – جد شيخ الإسلام ابن تيمية – في كتابه (( المحرر في الفقه الحنبلي )) ( ص 62 ) :
(( و من أخر صلاة تكاسلا لا جحودا ، أمر بها ، فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى وجب قتله )) .
قلت : فلم يكفر بالتأخير ، و إنما بالإصرار المنبئ عن الجحود .
و لذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في (( مشكل الآثار )) في باب عقده في هذه المسألة ، و حكى شيئا من أدلة الفريقين ، ثم اختار أنه لا يكفر .
قال ( 4 / 228 ) :
(( و الدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلي ، و لا نأمر كافرا أن يصلي ، و لو كان بما كان منه كافرا لأمرناه بالإسلام ، فإذا أسلم أمرناه بالصلاة ، و في تركنا لذلك ؛ و أمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة ، و من ذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم الذي أفطر في رمضان يوما متعمدا بالكفارة التي أمره بها ، و فيها الصيام ، و لا يكون الصيام إلا من المسلمين .
و لما كان الرجل يكون مسلما إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس ، و من صيام رمضان : كان كذلك ، و يكون كافرا بجحود لذلك ، و لا يكون كافرا بتركه إياه بغير جحود منه له ، - و لا يكون كافرا إلا من حيث كان مسلما - ، و إسلامه كان بإقراره بالإسلام ، فكذلك ردته لا تكون إلا بجحود الإسلام )) .
قلت : و هذا فقه جيد ، و كلام متين ، لا مرد له ، و هو يلتقي مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد رحمه الله ، الدال على أنه لا يكفر لمجرد الترك ، بل بامتناعه من الصلاة بعد دعائه إليها .
و إن مما يؤكد ما حملت عليه كلام الإمام أحمد ، ما جاء في كتاب (( الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل )) للشيخ علاء الدين المرداوي ، قال رحمه الله ( 1 / 402 ) كالشارح لقول أحمد المتقدم آنفا : (( أدعوه ثلاثا )) :
(( الداعي له هو الإمام أو نائبه ، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله ، و لا يكفر على الصحيح من المذهب ، و عليه جماهير الأصحاب ، و قطع به كثير منهم )) .
و ممن اختار هذا المذهب أبو عبد الله بن بطة ، كما ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي في كتابه (( الشرح الكبير على (( المقنع )) للإمام موفق الدين المقدسي )) ( 1 / 385 ) ، و زاد أنه أنكر قول من قال بكفره ، قال أبو الفرج :
(( و هو قول أكثر الفقهاء ، منهم أبو حنيفة ، و مالك ، و الشافعي )) .
ثم استدل على ذلك بأحاديث كثيرة ، أكثرها عند ابن القيم ، و منها حديث عبادة المتقدم في كلام ابن تيمية ، فقال عقبه :
(( و لو كان كافرا لم يدخله في المشيئة )) .
قلت : و يؤكد ذلك حديث الكتاب ، و حديث عائشة ؛ تأكيدا لا يدع شكا أو شبهة ، فلا تنس .
ثم قال أبو الفرج : (( و لأن ذلك إجماع المسلمين ، فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله و الصلاة عليه ، و لا منع ميراث مورثه ، و لا فرق بين الصلاة من أحدهما مع كثرة تاركي الصلاة ، و لو كفر لثبتت هذه الأحكام .
و لا نعلم خلافا بين المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها([57])، مع اختلافهم في المرتد .
و أما الأحاديث المتقدمة ( يعني التي احتج بها المكفرون كحديث : (( بين الرجل و بين الكفر ترك الصلاة )) ) فهي على وجه التغليظ و التشبيه بالكفار ، لا على الحقيقة ، كقوله صلى الله عليه و سلم : (( سباب المسلم فسوق ، و قتاله كفر )) ... و أشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد .
قال شيخنا رحمه الله ( يعني الموفق المقدسي ) : و هذا أصوب القولين ، و الله أعلم )) .
قلت : و نقله الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في حاشيته على (( المقنع )) ( 1 / 95 – 96 ) لابن قدامة ، مقرا له .
و مع تصريح الإمام الشوكاني في (( السيل الجرار )) ( 1 / 292 ) بتكفير تارك الصلاة عمدا ، و أنه يستحق القتل ، و يجب على إمام المسلمين قتله ، فقد بين في (( نيل الأوطار )) أنه لا يعني كفرا لا يغفر ، فقال بعد أن حكى أقوال العلماء و اختلافهم ، و ذكر شيئا من أدلتهم ( 1 / 154 – 155 ) :
(( و الحق أنه كافر يقتل ، أما كفره ، فلأن الأحاديث صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم (!) ، و جعل الحائل بين الرجل و بين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة ، فتركها مقتض لجواز الإطلاق .
و لا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون ، لأنا نقول : لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة و استحقاق الشفاعة ، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا ، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيعتها )) .
و لقد صدق رحمه الله ، لكن ذهابه إلى جواز إطلاق اسم ( الكافر ) على تارك الصلاة ، هو توسع غير محمود عندي ، لأن الأحاديث التي أشار إليها ليس فيها الإطلاق المدعى ، و إنما فيها : (( فقد كفر )) !
و ما أظن أن أحدا يستجيز له أن يشتق من هذا الفعل اسم فاعل ، فيقول منه : ( كافر ) ، إذن لزمه أن يطلقه أيضا على كل من قيل فيه : (( كفر )) ، كالذي يحلف بغير الله ، و من قاتل مسلما ، أو تبرأ من نسب ، و نحو ذلك مما جاء في الأحاديث .
نعم ؛ لو صح ما رواه أبو يعلى ( 2349 ) و غيره عن ابن عباس مرفوعا بلفظ :
(( عرى الإسلام و قواعد الدين ثلاثة ، عليهن أسس الإسلام ؛ من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم : شهادة أن لا إله إلا الله ، و الصلاة المكتوبة ، و صوم رمضان )) .
أقول : لو صح هذا لكان دليلا واضحا على جواز إطلاقه على تارك الصلاة ، و لكنه لم يصح ؛ كما بينته في (( السلسلة الضعيفة )) ( 94 ) .
و الخلاصة : أن مجرد الترك لا يمكن أن يكون حجة لتكفير المسلم ، و إنما هو فاسق ، أمره إلى الله ، إن شاء عذبه و إن شاء غفر له ، و الحديث الذي هو عماد هذه الرسالة نص صريح في ذلك لا يسع مسلما أن يرفضه .
و أن من دعي إلى الصلاة ، و أنذر بالقتل إن لم يستجب فقتل فهو كافر – يقينا – حلال الدم ، لا يصلى عليه ، و لا يدفن في مقابر المسلمين .
فمن أطلق التكفير فهو مخطئ ، و من أطلق عدم التكفير فهو مخطئ ، و الصواب التفصيل .
فهذا الحق ليس به خفاء
فدعني من بنيات الطريق
و بعد :
فإن أخشى ما أخشاه أن يبادر بعض المتعصبين الجهلة ، إلى رد هذا الحديث الصحيح لدلالته الصريحة على أن تارك الصلاة +لا مع الإيمان بوجوبها داخل في عموم قوله تعالى : ] ... و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ ، كما فعل بعضهم أخيرا بتاريخ ( 1407 هـ ) ؛ فقد تعاون اثنان من طلاب العلم – أحدهما سعودي و الآخر مصري – ، فتعقباني في بعض الأحاديث من المئة الأولى من (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )) منها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ( برقم : 87 ) و لفظه :
(( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ، حتى لا يدرى ما صيام ، و لا صلاة ، و لا نسك ، و لا صدقة ، و ليسرى على كتاب الله عز و جل في ليلة ، فلا يبقى منه آية ، و تبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير ، و العجوز ؛ يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : (( لا إله إلا الله )) ، فنحن نقولها .
قال صلة بن زفر لحذيفة : ما تغني عنهم (( لا إله إلا الله )) و هم لا يدرون ما صلاة ، و لا صيام ، و لا نسك ، و لا صدقة ؟
فأعرض عنه حذيفة ، ثم ردها عليه ثلاثا ، كل ذلك يعرض عنه حذيفة .
ثم أقبل عليه في الثالثة ، فقال : يا صلة ! تنجيهم من النار . ( ثلاثا ) )) .
قلت : فسودوا في تضعيف هذا الحديث ثلاث صفحات كبار في الرد علي لتصحيحي إياه ، و لم يجدا ما يتعلقان به لتضعيفه إلا أنه من رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير ([58])، بحجة أنه كان يرى الإرجاء ! و أن الحديث موافق لبدعة الإرجاء !!
و هذا من الجهل البالغ ، و لا مجال الآن لبيانه ؛ إلا مختصرا ، فإن أبا معاوية مع كونه ثقة محتجا به عند الشيخين ؛ فإنه قد توبع من ثقة مثله(1)، و أن الحديث لا صلة له بالإرجاء مطلقا .
و هما إنما ادعيا ذلك لجهلهم بالعلم ، و كيف يكون ذلك و قد صححه الحاكم و الذهبي ، و كذا ابن تيمية و العسقلاني و البوصيري .
و لئن جاز في عقلهما أن هؤلاء العلماء كانوا في تصحيحهم إياه جميعا مخطئين ! فهل وصل الأمر بهما أن يعتقدا بأنهم يصححون ما يؤيد الإرجاء ؟!
تالله إنها لإحدى الكبر أن يتسلط على هذا العلم من لا يحسنه ، و أن يضعفوا ما أهل العلم يصححونه [59] !
و هذا الحديث الصحيح يستفاد منه أنه الجهل قد يبلغ ببعض الناس أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة ، و هذا لا يعني أنهم يعرفون وجوب الصلاة و سائر الأركان ، ثم هم لا يقومون بها ؛ كلا ليس في الحديث شيء من ذلك ، بل هم في ذلك ككثير من أهل البوادي ، و المسلمين حديثا في بلاد الكفر ، لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين .
و قد يقع شيء من ذلك في بعض العواصم ، فقد سألني أحدهم هاتفيا عن امرأة تزوجها ، و كانت تصلي دون أن تغتسل من الجماع !
و قريبا سألني إمام مسجد ينظر إلى نفسه أنه على شيء من العلم يسوغ له أن يخالف العلماء ! سألني عن ابنه أنه كان يصلي جنبا بعد أن بلغ مبلغ الرج