كان العيد عيدا
عبدالله الصالح العثيمين
في كل نفس مخلصة ما فيها من ألم وهي ترى الأمة الإسلامية؛ قادة وشعوباً إلا ما ندر، تضرب أوضح الأمثلة في تقبٌّل الإهانة، وفي التفرُّج على حرب الإبادة التي يشنُّها أعداؤها ضدها دون أيَّ حركة إيجابية؛ سواء تلك الحرب التي يرتكب جرائمها الشنيعة طغاة الصهاينة في فلسطين، أوالتي يقوم بها أعوانهم المتفانون في مناصرتهم هنا أوهناك. ومنذ خمسة عقود عرف في بدايتها كاتب هذه السطور بعض ما كان يحدث في العالم لم يمرَّ عيد من الأعياد والأمة بمثل ما هي عليه الآن من مهانة وذل. على أن محاولة الهروب من كابوس هذا الألم الجاثم قد يكون لها ما يبرَّرها. ولذلك فإن هذه المقالة ستركز الحديث على مقارنة بين عيد الأمس وعيد اليوم؛ وبخاصة لدى الأطفال والصبيان.
قد يقول قائل: إن ذكر المرء مرحلة طفولته بشيء من الثناء مبعثه حنينه إلى متعة بريئة كان يرتع في أفيائها بعيداً عن تحمُّل مسؤوليات الحياة المتعبة حين يبلغ مرحلة الكهولة، وإن ذكره مرحلة صباه بفيضٍ من الإشادة سببه ما كانت توحيه تلك المرحلة المتوهجة بالنشاط وتحقِّقه من قدرة على التلذُّذ بما وهبه الله من طيَّبات الحياة المتنِّوعة. ولهذا القول عن المرحلتين المذكورتين جانبه من الصحة والصواب.
على أن المرء لو ابتعد عن هذا القول بكل ما فيه من صحة وصواب ليقارن مقارنة المتأمل في حياة مجتمع هذا الوطن بالذات بين أمسه ويومه لوجد بواعث وأسباباً أخرى تجعله يميل إلى التسليم بأن مرحلتي الطفولة والصبا في الماضي مع قلَّة الإمكانات المادية كانتا أكثر متعة من مرحلتي الطفولة والصبا في الحاضر مع كل ما توافر من تلك الإمكانات. كانت قلَّة الإمكانات المادية عاملاً مهمّاً في كون الطفل يتوق إلى امتلاك أيِّ شيء يمتعه. وكان إذا حصل على هذا الشيء شعر وكأنه قد امتلك الدنيا كلها. فحصوله على جذع عسيب (كربة) مع سريحة أو خيط لا يتجاوز طوله المتر كافٍ لجعله منهما ـ في نظره ـ ناقة تقاد برسنها.
وفي هذا ما فيه من متعة. أما إذا حصل على حافة برميل (دنَّانة) مع عصا في رأسها حديدة هلالية الشكل يحرَّك بها تلك الدنَّانة ويوجهها فذلك من أعظم متع الرفاهية. وإني لأظن أن متعة طفل الأمس بما ذكر أعظم من متعة طفل اليوم بما أتاحت له مصانع العالم من ألعاب. وكانت قلَّة الإمكانات المادية سبباً واضحاً في كون الصبي في الماضي يتوق إلى متع بينها اللعب بالطابة (الكرة من الخرق) ولعب الكعابة؛ خوطة أو كبَّة، بكل ما فيهما من قواعد وأصول، كما كان بينها المجازفة بالجموح من زرانيق القلبان بكل ما في ذلك من خطورة، وإلى العفس بالكلاب (أي هدّها لتجري خلف ما يراد أن تنال منه) ساعة من نهار. وكان يتلذَّذ إذا وجد فرصة تتيح له أن يختلس من أهله تمرات يسدُّ بها رمق كلبه المدلَّل؛ حجلان، أو طوقان، أو سمران. وإني لا أستبعد ان تكون متعة صبي الأمس بما ذكر أعظم من متعة صبي اليوم بما أتاحته له مصانع العالم من وسائل الحركة المتنَّوعة.
ولو أخذ المرء متعة العيد بالذات لتوصل إلى قرار صائب حول الموضوع المتحدَّث عنه. كانت فرحة الطفل؛ ذكراً أو أنثى، بعيد الفطر تبدأ قبل ثلاثة أيام من حلوله. ففي هذه الأيام الثلاثة يذهب الأطفال إلى أقاربهم ومعارفهم للحصول على ما يسمَّى في بلدتي «الحقاق». وهذا الحقاق مختلف قيمة ونوعا.
فقد يكون بضعة قروش، وقد يكون شيئا من يبيس السكري، أو قرصان الكليجا والفتيت، أو الحمص ملبَّساً بمادة سكرية أوغير ملبَّس، أو حلوى. وكانت الفرحة بما أٌهدي لاتضاهيها فرحة، ولا يعكِّر صفوها إلا ترصُّد الأكبر سناً من الأطفال، أو الصبيان، للمهدى إليه في الزوايا ليباغتوه بالعبارة التهديدية: «بطّ الخالة».
وكلمة «بط» معناها: هاتِ أو سلِّم، أما كلمة «الخالة» فواضح أنها تحريف لكلمة «الخاوة». وكان بعض رؤساء البادية ـ قبل استقرار الأمن في البلاد ـ يفرضون على من يمرّون بمناطقهم ضريبة يسمّونها «الخاوة».
وهكذا كان الأكبر سناً من الأطفال، أوالصبي، يمارس بحق الأصغر سناً ما كان يمارسه أولئك الرؤساء من أخذ إخاوات. وكما كانت الإخاوات ـ غالباً ـ غير باهظة القيمة كانت «الخالة»؛ أي الخاوة المبطوطة من الطفل غير كبيرة؛ إذ كان يكفي المترصِّد حبَّات من الحمص أو +رة من الكليجا أو الفتيت. ولا أذكر أن الطمع بلغ به درجة يأمل فيها أن يحصل على نقود.
وتمضي الأيام الثلاثة قبل العيد والأطفال من فرحة إلى أخرى متمتِّعين بما أهدي إليهم مسرورين به. ثم يحلّ يوم العيد، فيلبسون له ثيابه متباهين بها، ويخرجون إلى المصلّى خارج البلدة تغمرهم البهجة والسرور.
أما الصبيان فكانوا يجمعون ما حصلوا عليه من نفود لم تكن عادة، تتجاوز بضعة قروش. ثم يتفقون؛ مجموعة مجموعة، على الاشتراك في شراء ما يشربونه ويأكلونه ليلة العيد. ويسمّون ذلك الاشتراك: «التساوق»؛ أي يسوق (يدفع) كل واحد منهم الشيء المتفق على دفعه.
ويتم الاحتفال تلك الليلة في بيت أحد أفراد المجموعة، وقد يخرجون خلف أسوار البلدة، ويوقدون ناراً يطبخون عليها، ما استطاعوا الحصول عليه من طعام.
ومن الصبيان ذوي الجرأة من كانوا يسرون على دجاج بعض الفلاحين، فيحنشلون كما كان يحنشل أفراد من البادية في أزمان ماضية إلا أنهم في سراهم لم تكن تصكّ بهم النوابيح.
أما الآن فلم يعد الأطفال يتمتَّعون بالأيام السابقة ليوم العيد، كما كان يتمتَّع أمثالهم بالأمس؛ حصولاً على ما يؤمل، وسعادة به وامتداداً زمنياً بالتمتُّع فيه. ولم يعد الصبيان يفرحون بليلة العيد؛ ليلة مميَّزة تمتزج فيها مشاعر الفرح بالاجتماع الأخويّ بمشاعر السرور بما تهيَّأ نتيجة سعي لتهيئته وتنظيم في تحقيقه.
فهل يلام من قال: كان العيد عيدا؟
أعاد الله على الأمة أعيادها برحمته ونصره.