الكلمة الطيبة وأثرها على الفرد والمجتمع
أبو خــــالد
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث وأحسنه كتاب الله، وأفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم أجِرنا من النار.
عباد الله، إنّ الإسلام يسمو بالأمة التي رَضيته دينا ـ أفراداً وجماعات ـ إلى أرقى مدارج الرقي، ويحفّزها لتدرك هذا الرقيّ عن طريق الخلُق الفاضل بانتهاج سبيل المحبة والمودّة وحسن السلوك والمعاملة، والخير الأصيل لا يموت مهما زاحمه الشرّ، والطيّب لا يصير خبيثا مهما زاحمه الخبث، { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }إبراهيم:25.
أيها المسلمون والمسلمات، إن للكلمة في حياة الناس أثرًا، وينقسم الناس بصدَدها إلى قسمَين: أصحاب الكلمة الطيبة وفي مقدّمتهم الأنبياء والرسل، وأصحاب الكلمة الخبيثة وفي مقدّمتهم إبليس المطرود من رحمة الله، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} إبراهيم:24-26. فكم من شمل ممزَّق جمعت بينه كلمة طيبة، وكم من جماعات فرّقتهم كلمة خبيثة.
وجرح السّنان لـه التِئَام ولا يلتئم ما جرح اللسان
وقد توعّد الرسول خبيثَ اللسان بأن يكَبّ في النار. إن الكلمة الطيبة ثابتة مثمِرة، تنفع صاحبها في حياته الدنيا بالذكر الحسن، وتعود عليه بالدعاء الصالح في آخرته، فهي ثابِتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)). والخير كلّ الخير أن تحرّك لسانك بتحيّة الإسلام حين تلقَى من تعرف ومن لا تعرف، والخير كلّ الخير أن تردّ التحية بأحسن منها أو مثلها، والخير كل الخير أن تشغل لسانك بذكر خالقك وأن تنصح من استنصحك إن كنت قادرا، وكلمة الخير أن تصلح بين اثنين وأن ترشد الضال التائه، والكلمة الطيبة أن تعلّم جاهلا وأن تصدُق القول فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، والكلمة الطيبة أن تشير بالرأي الحسن إذا طلب منك ذلك.
أما الكلمة الخبيثة فهي كلمة الباطل كشجرة خبيثة، قد يخيَّل لبعض الناس أحياناً أنها أضخم من الشجرة الطيبة، ولكن الخبث هو الخبث، والباطل هو الباطل، وجذور شجرة الخبث ليست عميقة، وما هي إلا فترة ثم تجتثّ من فوق الأرض ما لها من قرار ولا بقاء. ومن الكلام الخبيث أن تشتمَ غيرك وتسبَّه وتلعنه، ومن الكلام الخبيث أن تشغل لسانك في مجالس اللغو بالخنا وفاحش القول، ومن الكلام الخبيث أن تفسد العلاقة بين اثنين من المؤمنين، ومن الكلام الخبيث أن تفسد العلاقة بين الأزواج والجيران، ومن الكلام الخبيث أن تمنّ على من أحسنتَ إليه وتؤذيه، ومن الكلام الخبيث أن تقول لوالديك: "أف لكما".
عباد الله، إن حسنَ الكلام وطيبَه والبشاشة في وجوه الناس أمر محمود يطلبه منكم نبيّكم محمد بن عبد الله ، أخرج البزار في مسنده أن جابر بن سليم قال: ركبت قَعُودِي ثم أتيت إلى مكة فطلبتُ رسول الله، فدلوني عليه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: ((وعليك السلام))، فقلت: إنا معشرَ أهل البادية قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها، فقال: ((ادنُ)) ثلاثَ مرات، فدنوت فقال: ((أعد عليّ ما قلتَ))، فأعدت عليه فقال: ((اتق الله، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق، وأن تفرغ دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبَّه بما تعلم فيه، فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا، ولا تسبن شيئا مما خوَّل الله لك))، قال جابر: فوالّذي نفسي بيده، ماسببت بعده شاة ولا بعيراً.
فاللهم اجعل الإخلاص دأبنا، والعفو خلقنا، والمعروف عادتَنا، واجمع اللهم شملنا، ويغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وإمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. إن الحبيب المصطفى يأمر أتباعَه بتقوى القلب وتقوى اللسان وتقوى العمل، فيقول: ((اتقوا الله بشقّ ثمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))، وإنَّ خبث اللسان مانع من موانع الهداية.
وإذا نطق السفيه فلا تجبه فخير إجابته السكوت
أيها المسلم، أيتها المسلمة، إذا تأذّيتَ بكلام جارح أو بفعل سيّئ فلا تردّ الإساءة بمثلها، وإنما بالإعراض إن كنت لا تقدر على أن تحسن لمن أساء إليك، فالرسول الأكرم عاش بين قوم يفترون عليه الكذب، ويموهون على الناس حقائق الوحي، ويؤذونه بالفعل واللسان، ومع ذلك يعرض عنهم ويدعو لهم بالهداية ويقول: ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)). لقد حلاه الله وزيّنه بالخلق الكريم، ووصفه بالخلق العظيم. فاجتنبوا ـ عباد الله ـ كلام السوء، وعوّدوا ألسنتكم كلاما طيّبا، قد كان عيسى عليه الصلاة والسلام يخاطب حتى الحيوانَ بكلام طيّب، فقيل له: لم يا عيسى؟! فقال: كلٌّ ينفق مما عنده.
واعلمو أنّ الكلام الطيب لن يكلّفكم كثيرا، إنما هو تعوّد وممارسة، فلا تقل إلاّ خيرا لتكون من أهل الخير، ويجمعك الله مع أهل الخير في دار لا تسمَع فيها إلا همساً، لا تسمع فيه إلا قيلا: سلاماً سلاماً، في جنّة عرضها السموات والأرض أعِدّت للمتقين.
اللهم اجعلنا منهم، اللهم ليّن ألسنتا بذكرك وشكرك، وأصلح قلوبنا بهدايتك، واغفر لنا بحِلمك، وارحمنا بعفوك وفضلك، إنك غفور رحيم...1
1 - خطبة من: مسجد الأمنية/البيضاء/المغرب