أحكام القيام
الحمد لله الذي منَّ على عباده بمواسم الخيرات؛ ليغفر لهم بذلك الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف المخلوقات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات، وسلم تسليماً. أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأعلموا أن الله خلقكم لعبادته كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}1. وقد بين الله لكم طريق عبادته ومنَّ عليكم بمواسم الخير، تتكرر عليكم وتتوالى بما فيها من الفضائل والمكارم وعظيم الأجور، فعظموا رحمكم الله هذه المواسم، وأقدروها حق قدرها بفعل الطاعات والقربات، واجتناب المعاصي والموبقات، فإن الله لم يجعل هذه المواسم إلا لتكفير سيئاتكم، وزيادة حسناتكم، ورفعة درجاتكم.
أيها الناس: إن من المواسم العظيمة التي ينبغي للإنسان أن ينتهز فرصها بطاعة الله ذلكم الشهر الكريم، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر الخير والبركات والرحمة. هذا الشهر جعله الله تعالى ميداناً للتسابق إلى الخيرات، فإنه شهر تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله تطوعا؛ لتكميل فرائضكم فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيه بعمرة كان كمن أتى بحجة. فيه تفتح أبواب الجنة، وتكثر الطاعات من أهل الإيمان، وتغلق أبواب النار فتقل المعاصي من أهل الإيمان، و تغل فيه الشياطين فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره.2
أيها المسلمون: هذه جملة من أحكام القيام، وإذا كان الناس في رمضان يصومون ويقومون فإن من المهم أن تبين بعض تلك الأحكام. فلقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام هذا الشهر وقال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)3.
وإن صلاة التراويح من قيام رمضان، فأقيموها، وأحسنوها، وقوموا مع إمامكم حتى ينصرف، فإن من قام مع الإمام، حتى ينصرف كتب له قيام ليلة تامة4، وإن كان نائماً على فراشه.
أيها الصائمون القائمون: إن على الأئمة أن يتقوا الله عز وجل في هذه التروايح، فيراعوا من خلفهم، ويحسنوا الصلاة لهم، فيقيمونها بتأن وطمأنينة، ولا يسرعوا فيها، فيحرموا أنفسهم ومن وراءهم الخير، أو ينقروها نقر الغراب لا يطمئنون في ركوعها وسجودها وقعودها والقيام بعد الركوع فيها.
على الأئمة أن لا يكون هم الواحد منهم أن يخرج قبل الناس، أو أن يكثر عدد التسليمات دون إحسان الصلاة، فإن الله تعالى قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}5. ولم يقل: أيكم أسرع نهاية، أو أكثر عملاً، وقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم، وهو أحرص الناس على الخير والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره.6
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة.7 وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام بأصحابه في رمضان، ثم ترك ذلك خشية أن تفرض على الناس، فيعجزوا عنها. وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أبي بن كعب، وتميماً الداري أن يقوما في الناس بإحدى عشرة ركعة، فهذا العدد الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، وواظب عليه، واتبعه فيه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أفضل عدد تصلى به التراويح، ولكن ينبغي أن يطيل الإنسان فيها حتى يتمكن الناس من الدعاء، ولو زاد الإنسان رغبة في الزيادة، لا رغبة عن السنة بعد أن تبينت له لم يُنكَر عليه، لورود ذلك عن بعض السلف، وإنما ينكر الإسراع الفاحش الذي يفعله بعض الأئمة، فيفوت الخير عليه وعلى من خلفه.8
ولقيام رمضان شروط ومكملات حتى يكون القيام كاملاً، فهناك من يقوم ويحصل على فضيلة القيام الكاملة أو قريباً منها وقد حقق مراد الشارع الحكيم من القيام، وهناك من يقوم وتحصل له مطلق الفضيلة بأن يدخل في عداد من قام رمضان لكن مع تميز النوع الأول بعظيم الأجر والثواب، وسنذكر شيئاً من صفة القيام الكامل الذي نبه عليه العلماء مستنبطاً من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.
وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات بالطاعات، وحمانا من فعل المنكر والسيئات، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا صراط أصحاب الجحيم، وجعلنا ممن يصوم رمضان، ويقومه إيمانا بالله، واحتسابا لثواب الله إنه جواد كريم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
فيا أيها الصائمون والصائمات: هذه بعض صفات القيام الكامل، ولا يعني أن من فقد شيئاً من هذه الأمور أن قيامه باطل بل المعنى أن قيام الآخر أكمل وأفضل، وقيام من ترك شيئاً جائز ومقبول عند الله ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
من صفات القيام الكامل الواردة في السنة:
أولاً: أن يكون في الثلث الأخير من الليل، وفيه أحاديث منها حديث جابر بن عبدالله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ثمَّ ليرقد، ومن طمع أن يقوم من آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة وذلك أفضل)9
وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الوتر ركعة من آخر الليل)10
وهو أيضاً وقت التنْزيل الإلهي كما هو معلوم.
وقد قال عمر بن الخطاب وهو الذي جمع الناس للتراويح لما خرج مع عبدالرحمن بن عبدٍ القاري: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون –يريد آخر الليل- وقد كانوا يقومون أوله.11
الثاني: إطالة القراءة والسجود؛ لحديث جابر بن عبدالله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الصلاة طول القنوت)12.
أيها الناس: ومن صفات القيام أن يكون بعد نومةٍ ينامها قال ابن حبان في صحيحه: ذكر الخبر الدال على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يقوم الليل بعد نومة ينامها،13 وساق الأدلة على هذا.
ويشهد لهذا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلث الليل وينام سدسه)14
وورد فيـه أيضاً حديث أبي سعيد وأبي هـريرة رضي الله عنهما قـالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فقاما فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)15.
وعن الأسود قال: سألنا عائشة رضي الله عنهما عن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل فقالت: كان ينام أول الليل ويقوم آخرة.16
ومن صفات القيام الكامل –عباد الله- أن تكون الصلاة فيه مثنى مثنى، ثم يوتر بركعة، هذا هو الأكثر من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجوز أن يوتر بثلاث.
فقد جاء من حديث ابن عمر أنَّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)17
وأيضاً يكون الوتر بثلاث لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بثلاث.18وللمسألة تفصيل يراجع في مظانه من كتب الفقه.
ومن صفات قيام الليل: أن تصلى إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة أحياناً، وقد ثبت هذا من حديث عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.19
وكان كلام عائشة رضي الله عنها في جواب لسؤال عن صفة صلاة الليل في رمضان وقد جاء أيضاً عنها في المتفق عليه: أنه صلى في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة. وهذه هي السنة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقد صحح بعض العلماء فعل الصحابة أنهم صلوا بثلاث وعشرين وست وثلاثين وغير ذلك والروايات في ذلك مختلفة مضطربة في العدد.20
وكان الإمام مالك يذكر أن أهل المدينة يزيدون على الثلاثين، والشافعي -رحمه الله- ذكر أن أهل مكة يصلون عشرين، والخلاف فيها من قديم.
فمن قال: لا يزاد على إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة تمسك بظاهر النص وهو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن قال بالزيادة تمسك بأنها نافلة مطلقة، وقد ورد العموم بلفظ: (مثنى مثنى) ولم يحدد عداً معيناً.
اللهم ارزقنا اتباع نبينا، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، واسقنا من حوضه، وأدخلنا في شفاعته، واجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارزقنا اغتنام أوقات شهر رمضان بالعمل الصالح المقرب إليك، وزودنا بالتقوى للقيام بين يديك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.21
1 (56-58) سورة الذاريات.
2 الضياء اللامع من الخطب الجوامع، للسعدي (3/54).
3 رواه البخاري (37) ومسلم (759).
4 كما في الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
5 (2) سورة الملك.
6 خطبة للشيخ ابن عثيمين من المصدر:http://www.alminbar.net بتصرف.
7 رواه مسلم (764).
8 الضياء اللامع من الخطب الجوامع (3/54).
9 رواه مسلم (755).
10 رواه مسلم (752).
11 رواه البخاري(1906).
12 رواه مسلم (756).
13 صحيح ابن حبان (6/326).
14 متفق عليه.
15 رواه أبو داود(1451) وابن حبان(2568) وغيرهما، وهو في صحيح أبي داود للألباني (1288).
16 رواه مسلم (739).
17 متفق عليه، رواه البخاري(946) ومسلم (749).
18 رواه النسائي(1704) وصححه الألباني في صحيح النسائي.
19 رواه البخاري(3376).
20 كتاب قيام الليل لخضر بن صالح بن سند ص5.
21 للاستفادة في الموضوع راجع: المرجع السابق، الضياء اللامع لابن عثيمين،و كتاب صلاة الوتر للمروزي.