بسم الله الرحمن الرحيم
ربانيون لا رمضانيون
رَمَضَانُ
يا ..
فُرصَةُ المُحِبّينَ
د/ محمد بن عبد الرحمن العريفي
27/7/1422هـ
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام.. وجعله مطهراً لنفوسهم من الذنوب والآثام..
الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام ..والساعات والأيام .. وفاوت بينها في الفضل والإكرام .. وربك يخلق ما يشاء ويختار ..
أحمده سبحانه .. فهو العليم الخبير ..الذي يعلم أعمال العباد ويجري عليهم المقادير ..
لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير ..
في السماء ملكه .. وفي الأرض عظمته .. وفي البحر قدرته ..
خلق الخلق بعلمه .. فقدر لهم أقداراً .. وضرب لهم آجالاً ..
خلقهم .. فأحصاهم عدداً .. وكتب جميع أعمالهم فلم يغادر منهم أحداً .. وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام ..
ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام ..
صلى الله وسلم وبارك عليه ..ما ذكره الذاكرون الأبرار .. وصلى الله وسلم وبارك عليه ..ما تعاقب الليل والنهار ..
ونسأل الله أن يجعلنا من خيار أمته .. وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته ..
* * * * * * * *
أما بعد .. أيها الصائمون والصائمات ..
ما أشبه الليلة بالبارحة .. هذه الأيام تمر سريعة وكأنها لحظات ..
لقد استقبلنا رمضان الماضي .. ثم ودعناه .. وما هي إلا أشهر مرت +اعات .. فإذا بنا نستقبل شهراً آخر ..
وكم عرفنا أقواماً .. أدركوا معنا رمضان أعواماً ..
وهم اليوم من سكان القبور .. ينتظرون البعث والنشور ..
وربما يكون رمضان هذا لبعضنا آخر رمضان يصومه ..
إن إدراكنا لرمضان .. نعمة ربانية .. ومنحة إلهية ..
فهو بشرى .. تساقطت لها الدمعات .. وانسكبت العبرات ..
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } ..
وروى النسائي والبيهقي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ \" ..
وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة ) ..
* * * * * * * *
نعم..كم من قلوب تمنت..ونفوس حنت..أن تبلغ هذه الساعات ..
شهرٌ .. تضاعف فيه الحسنات .. وتكفر السيئات ..
وتُقال فيه العثرات .. وترفع الدرجات ..
تفتح فيه الجنان .. وتغلق النيران .. وتصفد فيه الشياطين ..
شهرٌ جعل فيه من الأعمال جليلُها .. ومن الأجور عظيمُها ..
روى الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ \" ..
* * * * * * * *
نعم .. شهر رمضان ..
هو شهر الخير والبركات .. والفتوح والانتصارات .. فما عرف التاريخ غزوةَ بدر وحطين .. ولا فتحَ مكة والأندلس .. إلا في رمضان ..
لذا كان الصالحون يعدون إدراك رمضان من أكبر النعم ..
قال المعلى بن الفضل : كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان !!
وقال يحيى بن أبي كثير : كان من دعائهم : اللم سلمني إلى رمضان .. وسلِّم لي رمضان .. وتسلَّمه مني متقبلاً ..
نعم .. كان رمضان يدخل عليهم .. وهم ينتظرونه .. ويترقبونه ..
يتهيئون له بالصلاة والصيام .. والصدقة والقيام ..
أسهروا له ليلهم .. وأظمئوا نهارهم .. فهو أيام مَّعْدُوداتٍ .. فاغتنموها ..
لو تأملت حالهم .. لوجدتهم .. بين باك غُلب بعبرته .. وقائم غص بزفرته .. وساجدٍ يتباكى بدعوته ..
كان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله :
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ..
كانوا .. ربانيين .. لا رمضانيين .. هم في صيام وقيام .. في رمضان وغير رمضان ..
باع رجل من الصالحين جارية لأحد الناس .. فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان الطعام ..
فقالت الجارية : لماذا تصنعون ذلك ؟
قالوا : لاستقبال الصيام في شهر رمضان .. فقالت : وأنتم لا تصومون إلا في رمضان ؟!
والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان .. لا حاجة لي فيكم .. ردوني إليهم .. ورجعت إلى سيدها الأول ..
* * * * * * * *
كانوا يدركون الحكمة من شرعية الصيام ..
فالصوم لم يشرعْ عبثاً ..
نعم .. ليستْ القضية ..قضية ترك طعام !! أو شراب ..كلا ..
القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير .. شرع لكي يعلمَ الإنسان ..أن له رباً ..يشرعُ الصومَ متى شاء ..ويبيحُ الفطرَ متى شاء !! يحكم ما يشاء ويختار .. فيخشاه ويتقيه ..
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } نعم { لعلكم تتقون } ..
والتقوى خشيةٌ مستمرة ..
خـل الـذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك الـتقى
واصنع كماش فوق أرض … الشوك يحذر ما يرى
لا تـحـقـرن صـغيرةً .. إن الجبالَ من الحصى
التقوى هي الخوفُ من الجليل ..والعملُ بالتنزيلُ ..والقناعةُ بالقليل ..والاستعدادُ ليوم الرحيل ..
ومن حقق التقوى شعر بأن حياته كلَّها .. ملك لله تعالى .. يفعل بها ما يشاء .. فهو يصلي وقت الصلاة .. ويصوم وقت الصوم ..
ويجاهد في الجهاد .. ويتصدق مع المتصدقين ..
فليس لنفسه منه حظ ولا نصيب .. بل حياته كلها وقف لله تعالى ..
* * * * * * * *
جعفر بن أبي طالب .. ابن عم رسـول الله صلى الله عليه وسلم أخو علي بن أبي طالب .. أسلم هو وزوجته أسماء مبكرين .. لم يتجاوز عمره الواحد والعشرين سنة .. وأصابه من الأذى والاضطهاد في مكة .. مالا يحتمل ..
فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشـة ..
خرج جعفر وزوجـه إلى الحبشة .. إلى أرض الغرباء البعداء ..
خرج وهو الشريف في قومه .. إلى أرض الغرباء البعداء ..
إلى أرض لا يعرفها .. وقبائل لا يألفها .. ولغة لا يفهمها ..
لبث في الحبشة ثلاث سنين .. ثم أشيع عندهم أن قريشاً قد أسلموا .. فعاد بزوجته وولده .. فإذا قريش على كفرها .. فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة .. عاد إلى الحبشة .. وأكمل فيها سبع سنوات ..
فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إلى المسلمين في الحبشة ليقدموا إلى المدينة .. فلما دخلوا المدينة .. فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر فرحاً شديداً ..
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه قبله بين عينيه والتزمه وقال ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر ، أم بقدوم جعفر !) ..
وكان جعفر شديد الشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم .. حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ..
ما كاد جعفر يستقر في المدينة .. حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم يجمعون الجيوش لغزو المسلمين ..
فجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً لقتال الروم في مؤتة ..
وأمَّر عليهم زيد بن حارثة .. وقال لهم :
إن أصيب زيد فجعفر .. على الناس فإن أصيب جعفر ..
فعبدالله بن رواحة .. فتجهز الناس وهم ثلاثة آلاف مقاتل ..
ثم ودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وصل المسلمون إلى مؤتة .. فإذا الروم مائة ألف مقاتل ..
فابتدأ القتال ..فأخذ الراية زيد فأصيب فقتل ..
ثم أخذها جعفر بيمينه .. وقاتل بها حتى إذا اشتد القتال ..
رمى بنفسه عن فرسه .. وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها 00طيبة وبــارداً شرابها
والروم روم قد دنا عذابها 00 كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ولا زال يضربهم بسيفه .. والراية في بيمينه .. فضربه رومي على يمينه .. فقطعت .. فأخذ الراية بشماله فقطعت .. فاحتضنها بعضديه حتى قتل .. وهو ابن ثلاثين سنة ..
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : رأيت جعفر صريعاً .. وفي جسده أكثر من تسعين ضربة ما بين طعنة وضربة ورمية .. والله ما فيها واحدة في قفاه ..
ثم أخذ الراية عبد الله بنُ رواحة .. فأصيب فقتل ..
ثم أخذها خالد بن الوليد .. فانسحب بالجيش ..
* * * * * * * *
هذا خبر المجاهدين في مؤتة .. أما خبر المدينة فيحكيه أنس رضي الله عنه فيقول : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم رقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر .. فقال :
ألا أنبئكم بخبر جيشكم هذا الغازي .. قلنا : بلى ..
قال : أخذ الراية زيد فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه ..
قال : ثم أخذ الراية جعفر فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه ..
قال : ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة .. فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه .. ثم استعبر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ..
وبعدها .. ذهب إلى بيت جعفر ..
قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر :
كنت قد غسّلت أولادي .. ونظفتهم ودهنتهم ..
وعجنت عجيني .. ننتظر قدوم جعفر ..
فاستأذن علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل .. فقال : ادعي لي بني أخي ..
قالت : فأتيته بهم كأنهم أفراخ ..
فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أقبلوا يتسابقون إليه .. يتعلقون به ويقبلونه .. يظنونه أباهم جعفر ..
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رؤوسهم ويبكي .. ويمسح رؤوسهم ويبكي .. فقالت أسماء : يا رسول الله .. أبلغك عن جعفر شيء ؟
فسكت .. قالت : يا رسول الله .. أبلغك عن جعفر شيء ؟
قال : قتل جعفر .. قالت : يا رسول الله .. يتم بنيه .. يتم بنيه ..
قال : آلعيلة تخافين عليهم ..!! أنا وليهم في الدنيا والآخرة ..
ثم خـرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( على مثل جعفر فلتبكِ البواكي ) ..
ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال اصنعوا لآلَ جعفر طعاماً فإنهم أتاهم ما يشغلهم .. ) .. نعم .. قتل جعفر .. وفارق أهله وماله ..
لكنه دخل جنة عرضها السماوات والأرض ..
قال صلى الله عليه وسلم : رأيت جعفر في الجنة .. له جناحان مضرجان بالدماء .. يطير بهما مع الملائكة ..
* * * * * * * *
نعم .. هذه حقيقة التقوى !! أن تطيع الله بكل جوارحك ..
فهل يكون متقياً .. من يصوم بطنه عن الطعام .. ولا تصوم عينه عن النظر الحرام ..
ولا سمعه عن السماع الحرام .. ولا يصوم لسانه عن الآثام ..
هل يكون متقياً .. من يجمع الثواب في النهار ..
ثم يحرق ذلك في الليل .. بأغنية ماجنة .. ورقصة فاتنة .. يزينها له شياطين الإنس .. نعم .. يزينها له شياطين الإنس ..
صفدت شياطين الجن فتحركت شياطين الإنس ..
بل إن شياطين الإنس لم يكتفوا بليل الصائمين ..وإنما أشغلوا نهارهم .. أصبحت جموع من الصائمين .. تتسمر أمام الشاشات في النهار والليل .. واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط ..
ولا يستشعرون أنهم وقعوا في الحرام ..
عجباً .. هل ينكر أحد منا حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ..
أو حرمة الغناء وآلات الطرب ..
أو حرمة النظر إلى ألعاب السحر والشعوذة ..
بل تعرض على الناس برامج .. إذا تأملت فيمن أنتجها وصاغها ..
بل وكتب حواراتها ..
وجدتهم ليسوا من العلماء المتقين .. ولا المصلحين الناصحين ..
وإنما أكثرهم من الفساق .. وشراب الخمور .. وأصحاب الشهوات المسعورة .. يحاربون الله ورسوله .. وي+بون الأموال ..
* * * * * * * *
لقد تبلدت أحاسيس بعض الناس .. حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا إلى رجل يحتضن بنتاً شابة ..لأنه يمثل دور أبيها .. أو يضطجع بجانبها على فراش واحد لأنه يمثل دور زوجها ..
صرنا نأخذ الأمر بعفوية بريئة ..
صرنا لا ننكر ظهور المرأة حاسرة متكشفة ..
تعودنا .. مناظر احتساء الخمور .. والتدخين .. والسرقات .. والقتل .. والسباب .. تقبلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل ..
أي تقوى تحققها هذه البرامج ..إنها والله تقضي على البقية الباقية من الإيمان .. بل إنها تتبع ما تبقى في القلب من تقوى وتزيلها ..
* * * * * * * *
أيها الصائمون والصائمات ..
هل يليق هذا برمضان ..شهرِ الحسنات ..والرحمات ..
سبحان الله .. أين ليالي رمضان ..
التي كانت تقضى .. بين قارئ للأذكار ..ومستغفر بالأسحار ..
كانت تقضى بين ساجد خاشع .. وقائم خاضع .. لصدر أحدهم أزيز كأزيز المرجل من البكاء ..
الكل في هدوء وسكينة .. تتنزل عليهم الرحمات .. ويباهي الله بهم ملائكته ..
فجاء التلفاز وأبدلها بالأفلام .. والمسلسلات ..وجولات المصارعة الحرة .. وكرة القدم ..
* * * * * * * *
والأدهى من ذلك كله ..أن يُخدَع الناسُ في رمضان بما يسمى مسلسلاتٍ الدينية ..
ففي شعبان يظهر الممثل في دور ماجن فاجر .. يقبل خليلته .. ويشرب الخمر .. فإذا دخل رمضان .. رأيته في شخصية أبي بكر وعمر ..
وخليلته الفاجرة في دور عائشة وخديجة .. إن هذا لشيء عجاب ..
نحن لا نلوم هؤلاء .. فقد غسلنا أيدينا منهم ..
لكننا نلوم العقلاء المؤمنين .. الذين تستخفهم هذه التوافه فيتابعونها دون نكير .. فمن يصفدُ عنا مردةَ شياطينِ الأنس ..
الذين لا يرونَ لرمضان حرمةً .. ولا يرقبون في مسلم إلاًّ ولا ذمة ..
فيهيئون أسبابِ الرذيلة .. بكلِّ خسةٍ ووقاحة !!
فبمناسبةِ رمضان ..يحي الفنانُ فلان حفلةً غنائية ..
وتقيمُ فرقةُ فلان ..مسرحيتهَا الماجنة ..
ألا شاهتْ تلك الوجوه ..ما أجرأَها على انتهاكِ حرماتِ الله ..
* * * * * * * *
أما يعلم هؤلاء المفسدون ..
أنهم يصبحون ويمسون على نعمة عظيمة .. لو واصلوا ليلهم بنهارهم في صيام وقيام .. لما شكروا عشر معشارها ..
إنها نعمة الإسلام .. وإدراكِ الصيام والقيام ..
أما يعلمون أن الله فضلهم بها على كثير ممن خلق تفضيلاً ؟
كيف يكون حال أحدهم لو أن الله بدل أن يجعله مسلماً موحداً ..
جعله بوذياً يسجد لحجر .. أو جعله من عباد البقر .. أو ممن يقولون الله ثالث ثلاثة .. أو يقولون عزير ابن الله ..
والله إن هذه الدنيا كلَّها لا تساوي شيئاً إذا أحسن العبد التقرب إلى ربه .. واستغفر من تقصيره وذنبه ..
* * * * * * * *
وانظر إلى حال الأنصار رضي الله عنهم بعد معركة حنين ..
الأنصار الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ثم قتلوا في أحد .. وحوصروا في الخندق .. ولا زالوا معه يقاتلون ويُقتَلون .. حتى فتحوا معه مكة .. ثم مضوا إلى معركة حنين ..
ففي الصحيحين ..
أن القتال اشتد أول المعركة .. وانكشف الناس عن رسول الله .. فإذا الهزيمة تلوح أمام المسلمين ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. فإذا هم يفرون من بين يديه ..
فصاح بالأنصار ..
يا معشر الأنصار .. فقالوا : لبيك يا رسول الله ..
وعادوا إليه .. وصفوا بين يديه ..
ولا زالوا يدفعون العدو بسيوفهم .. ويفدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحورهم .. حتى فر الكفار وانتصر المسلمون ..
وبعدما انتهت المعركة.. وجمعت الغنائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .. أخذوا ينظرون إليها ..
وأحدهم يتذكر أولاده الجوعى .. وأهلَه الفقرا .. ويرجو أن يناله من هذه الغنائم شيء يوسع به عليهم ..
فبينما هم على ذلك ..
فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم .. يدعو الأقرع بن حابس - ما أسلم إلا قبل أيام في فتح مكة .. فيعطيه مائة من الإبل .. ثم يدعو أبا سفيان ويعطيه مائة من الإبل ..
ولا يزال يقسم النعم .. بين أقوام .. ما بذلوا بذل الأنصار .. ولا جاهدوا جهادهم .. ولا ضحوا تضحيتهم ..
فلما رأى الأنصار ذلك ..
قال بعضهم لبعض : يغفر الله لرسول الله .. يعطي قريشاً ويتركنا .. وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فلما رأى سيدهم سعد بن عبادة رضي الله عنه ذلك .. دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال :
يا رسول الله .. إن أصحابك من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم .. قال : وما ذاك ؟!!
قال : لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت .. قسمت في قومك .. وأعطيت عطاياً عظاماً .. في قبائل العرب ..
ولم يكن في الأنصار منه شئ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟
قال : يا رسول الله .. ما أنا إلا امرؤ من قومي ..
فقال : فاجمع لي قومك.. فلما اجتمعوا .. أتاهم رسول الله ..
فحمد الله وأثنى عليه .. ثم قال : يا معشر الأنصار .. ما قالة بلغتني عنكم ؟
قالوا : أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريش ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار .. ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ..
قالوا : بلى ولله ورسوله .. المنة الفضل ..
قال : ألم تكونوا عالة فأغناكم الله .. وأعداءً فألف بين قلوبكم ..
قالوا : بلى ولله ورسوله .. المنة الفضل ..
ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وسكتوا .. وانتظرَ .. وانتظروا ..
فقال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ..
قالوا : وبماذا نجيبك يا رسول الله .. ولله ولرسوله المنة والفضل ..
قال : أما والله لو شئتم لقلتم .. فلصَدَقتم ولصُدِّقتم ..
لو شئتم لقلتم : أتيتنا مكذباً فصدقناك .. ومخذولاً فنصرناك .. وطريداً فآويناك .. وعائلاً فواسيناك ..
ثم قال : يا معشر الأنصار .. أوجدتم على رسول الله في أنفسكم .. في لعاعة من الدنيا .. تألفت بها قوماً ليسلموا .. ووكلتم الى إسلامكم ..
إن قريشاً حديثوا عهد بجاهلية ومصيبة .. وإني أردت أن أجبرهم .. وأتألفهم ..
ألا ترضون يا معشر الأنصار .. أن يذهب الناس بالشاة والبعير .. وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم ..
لو سلك الناس وادياً أو شعباً .. وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً .. لسلكت وادي الأنصار .. أو شعب الأنصار ..
فوالذي نفس محمد بيده .. إنه لولا الهجرة .. لكنت امرءاً من الأنصار .. اللهم ارحم الأنصار .. وأبناء الأنصار .. وأبناء أبناء الأنصار ..
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم .. وقالوا : رضينا برسول الله قَسْماً وحظاً.. ثم انصرف رسول الله وتفرقوا ..
* * * * * * * *
نعم .. إن الإسلام الذي هدوا إليه هو خير مما يجمعون ..
فطوبى لصائم استشعر هذه النعمة .. فحقق التقوى ..
فصام الشهر .. واستكمل الأجر ..
أخذ رمضان كاملاً وسلمه للملائكة كاملاً .. فلا غيبة .. ولا نميمة .. ولا أذية للمؤمنين .. ولا تقاعس عن صلوات .. أو وقوعاً في محرمات ..
صام فصامت جوارحه وأركانه .. قانتًا آناء الليل ساجدًا .. وقائمًا .. يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ..
طوبى لمن كانوا كذلك .. من عُبّاد رب الشهور كلها .. بواطنهم كظواهرهم .. شوالهم كرمضانهم .. الناس في غفلاتهم .. وهم في بكائهم .. ربانيون لا رمضانيون ..
هؤلاء هم الذين يتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم :
كما في الصحيحين : ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . يقول الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به .. ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي .. للصائم فرحتان ؛ فرحة عند فطره .. وفرحة عند لقاء ربه.. و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) ..
وفي الصحيحين أيضاً قال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ..
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا \" ..
وفي البخاري أن في الجنة بابا يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد ..
ولا شك أن هذا الثواب الجزيل .. لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط .. وإنما لا بد أن يتأدب بآداب الصوم ..
* * * * * * * *
فالصائم المتقي .. يحفظ اللسان .. كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري : ( من لم يدع قول الزور والعمل به .. فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه ) ..
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : ( الصوم جنة .. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل .. فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم ) ..
وقد كان السلف يحذرون من فلتات اللسان .. في غير صومهم فكيف بهم إذا صاموا ..؟!!
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد .. وقالوا : نحفظ صيامنا ..
وهذا هو حال العاقل .. فلماذا يغتاب الناس فيعطي حسناته لغيره ..
قال عبد الله بن المبارك لسفيان الثوري : يا أبا عبد الله .. ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ..
فقال سفيان : هو أعقل من أن يسلط على حسناته من يذهب بها ..
بل كان بعضهم يحاسب نفسه على الكلام المباح فضلاً عن غيره ..
ذكر ابن قدامة في الرقة والبكاء .. عن :
مالك بن ضيغم عن أبيه قال :
جاءنا رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر .. فقلنا : هو نائم ..
فقال : أنوم بعد العصر ؟ هذه الساعة ؟ هذا وقت نوم !!
ثم ولى .. فقلنا للخادم : الحقه .. فقل : نوقظه لك ؟ فذهب الخادم .. فلم يرجع الخادم إلا بعد المغرب .. فقلنا : أبلغته ..
فقال : هو كان أشغلَ من أن يفهم عني .. أدركته وهو يدخل المقابر .. وهو يوبخ نفسه .. يقول : يا نفس أقلت : أي نوم هذا ..
لينم الرجل متى شاء .. تسألين عما لا يعنيك ..
أما إن لله عز وجل على عهداً .. أن أصلي كذا وكذا ..
* * * * * * * *
نعم دقق على نفسك .. ولا تحتقرن شيئاً ..
جلست عائشة يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكرت له صفيه – إحدى زوجاته .. وتعلمون ما يقع بين الضرائر من الغيرة - قالت عائشة :
يا رسول الله .. حسبك من صفية كذا وكذا .. تعني قصيرة ..
فقال صلى الله عليه وسلم : لقد قلت كلمة .. لو مزجت بماء البحر لمزجته .. رواه الترمذي وقال حسن صحيح ..
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال :
إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار .. أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ..
* * * * * * * *
أيها الصائمون والصائمات ..
ومن أفضل الأعمال .. في هذا الشهر الكريم ..قيام الليل ..
في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) ..
ومدح الله المؤمنين فقال : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً * والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ) ..
وقد كان قيام الليل دأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..
ففي الصحيح عن حذيفة قال :
صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة .. فافتتح البقرة .. فقلت :
يركع عند المائة .. ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة ..
فمضى .. فقلت : يركع بها .. ثم افتتح النساء .. فقرأها ..
ثم افتتح آل عمران .. فقرأها ..
يقرأ مترسلاً .. إذا مر بآية فيها تسبيح .. سبح ..
وإذا مر بسؤال .. سأل .. وإذا مر بتعوذ .. تعوذ ..
ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم .. فكان ركوعه نحواً من قيامه .. ثم قال : سمع الله لمن حمده .. ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ..
ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه ..
* * * * * * * *
أما أبو بكر رضي الله عنه .. فكان يصلي من الليل ما شاء الله .. ويبكي ..
وأما عمر رضي الله عنه .. فكان يصلي من الليل ما شاء الله .. حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ثم يقول لهم : الصلاة ، الصلاة .. ويتلو هذه الآية : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) ..
نعم كان أحدهم يصلي لربه .. صلاة عبد مشتاقٍ إليه .. معترفٍ بفضله عليه.. متذللٍ من+رٍ بين يديه ..
فيزداد محبة إلى محبته.. وشوقاً إلى دخول جنته..
يود أن ظلام الليل دام له * وزيد فيه سواد القلب والبصر
وهكذا كان من بعدهم ..
كان محمد ابن خفيف .. رحمه الله به وجع الخاصرة ..
فكان يشتد عليه حتى يقعده عن الحركة ..فكان إذا نودي بالصلاة..
يحمل على ظهر رجل إلى المسجد .. فقيل له : إن الله قد عذرك ..
فلو خففت على نفسك .. فقال : كلا .. إذا سمعتم حي على الصلاة .. ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة ..
لله درهم من مرضى.. بل والله نحن المرضى..
وكان منصور بن المعتمر .. إذا جن عليه الليل .. يلبس من أحسن ثيابه .. ثم يرقى إلى سطح بيته .. ويصلي ..
فلما مات .. قال غلام جيرانهم لأمه : يا أماه .. الجذع الذي كان ينصب في الليل في سطح جيراننا .. ليس أراه ..
فقالت : يا بني .. ليس ذاك جذعاً ذاك منصور كان يصلي .. وقد مات..
* * * * * * * *
وكانوا يستشعرون عظمة ربهم إذا وقفوا بين يديه ..
كان أبو زرعة الرازي إماماً في مسجد قومه عشرين سنة ..
فجاءه يوماً .. قوم من طلاب الحديث ..
فنظروا فإذا في محرابه كتابة .. فقالوا له : ما حكم الكتابة في المحاريب ؟ فقال : قد كرهه قوم ممن مضى .. فأنا أنهى عنه وأكرهه ..
فقالوا : هو ذا في محرابك كتابة .. أو ما علمت بها ..!!
فقال : سبحان الله !! رجل يقف بين يدي الله تعالى .. ويدري ما بين يديه ..
* * * * * * * *
أما سفيان الثوري.. فقد حدث عنه عبد الرزاق .. أحد طلابه .. قال : قدم عليَّ سفيان الثوري .. بعد العِشاء .. فوضعت له العَشاء .. وال+يب والموز .. فأكل أكلاً جيداً ..
فلما فرغ .. قام .. وتوضأ .. ثم شد على وسطه إزاره .. واستقبل القبلة وقال .. يا عبد الرزاق !! يقولون : اعلف الحمار ثم كده ..
ثم صف قدميه يصلي حتى الصباح ..
وقال ابن وهب : رأيت سفيان الثوري في الحرم بعد المغرب .. صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء ..
* * * * * * * *
نعم .. كانوا يتسابقون على الخير ..
قام أبو مسلم الخولاني ليلة .. فتعبت قدماه فضربهما بالسوط .. وأخذ يقول : أيظن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه ؟ والله لنـزاحمنهم عليه .. حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالاً ..
وكانوا يجدون في الصلاة خشوعاً .. وفي السجود خضوعاً ..
ذكر الذهبي عن بعض أصحاب شعبة بن الحجاج قال :
كان شعبة يطيل الصلاة .. وما رأيته ركع في الصلاة قط إلا ظننت أنه نسي .. ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي ..
وفي الحلية : أن عبيدة بن مهاجر .. كان عابداً شاكراً .. متخشعاً ذكراً .. وكان له أم مجوسية .. فكان يبرها أشد البر .. ويدعوها إلى الإسلام فتأبى عليه ..
فرجع من صلاة العصر يوم الجمعة .. فبشرته أنها أسلمت .. ونطقت الشهادتين .. فخر ساجداً لله .. يبكي ويناجي .. فما رفع رأسه حتى غابت الشمس ..
* * * * * * * *
ولم يكن العباد من الرجال فقط ففي النساء نصيب ..
فمعاذة العدوية كانت تصلي أكثر الليل .. وتقول :
عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور .. وتبكي ..
وكانت حفصة بنت سيرين تسرج سراجها من الليل ثم تقوم في مصلاها .. وكانت تقرب كفنها .. لتذكر الموت في صلاتها .. فتخشع ..
* * * * * * * *
نعم .. كانوا يركعون ويسجدون .. ويصلون ويقومون .. حتى صار ذلك لهم عادة ..
كان للحسن بن صالح جاريةٌ فاشتراها منه بعضهم .. فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد قامت تصيح في الدار :
يا قوم ..الصلاة ..الصلاة .. فقاموا فزعين .. وسألوها : هل طلع الفجر ؟ فقالت : وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة ؟! ثم قامت تصلي ..
فلما أصبحت رجعت سيدها الأول ..
وقالت له : لقد بعتني إلى قوم سوء لا يصلون إلا الفريضة ولا يصومون إلا الفريضة فردني فردها ..
فليت شعري .. ماذا تقول تلك الجارية لو رأت فريقاً من مسلمي زماننا .. الذين تمر عليهم الأيام تترى .. وهم على فرشهم يتقلبون ..
فلا الليلَ يقومون .. ولا صلاةَ الفجر يشهدون ..
فكانوا كما قال الله { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً } ..
* * * * * * * *
وكانوا في رمضان أشدَّ منهم اجتهاداً ..
فكان الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة .. ويختمون القرآن مراراً في رمضان ..
وفي الموطأ عن ابن هرمز قال : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان .. فكان القارىء يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات .. فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعةً .. رأى الناس أنه قد خفف ..
وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال : كنا ننصرف من القيام في رمضان .. فنستعجل الخادم بالطعام مخافة الفجر ..
وفي شعب البيهقي عن خالد بن دريك قال : كان لنا إمام بالبصرة يختم بنا في شهر رمضان في كل ثلاث .. فمرض فأمنا غيرُه .. فختم بنا في كل أربع .. فرأينا أنه قد خفف ..
وقال السائب بن زيد : كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام .. وما كنا ننصرف إلا عند الفجر ..
فقارن حالهم بحالنا اليوم ..
* * * * * * * *
ومن فضل الله تعالى .. أن من صلى التراويح كاملة مع الإمام ..
فكأنما قام الليلة كاملة .. كما في السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) ..
نعم .. قوم عبدو ربهم .. فخافوا من عقوبته .. ورغبوا في معاماته .. وتعلقت قلوبهم بمحبته ..
فكثر في الدنيا اجتهادهم .. حتى علت بين الناس رتبهم .. فأحبهم أهل السماء .. ووضع حبهم في الأرض ..
قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } ..
* * * * * * * *
شهر رمضان هو شهر القرآن ..
وكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ..
وكان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة ..
وكان الزهري إذا دخل رمضان .. يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم .. ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف ..
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن ..
وكان قتادة في غير رمضان .. يختم القرآن في كل سبع ليال مرة .. فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة .. فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة ..
وكان إبراهيم النخعي يختم في العشر الأواخر كل ليلة .. وفي بقية الشهر في ثلاث ..
* * * * * * * *
وكانوا يتدبرون القرآن ..
ففي البخاري عن بن مسعود رضي الله عنه قال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً : ( اقرأ علي ، فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، قال : فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال : حسبك .. فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) ..
وفي رمضان يجتمع الصوم والقرآن..فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان
يشفع له القرآن لقيامه .. ويشفع له الصيام لصيامه .. كما صح في المسند أنه صلى الله عليه وسلم قال :
( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.. يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار .. فشفعني فيه .. ويقول القرآن : رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ) ..
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يجيء القرآن يوم القيامة فيقول : يارب حلّه.. فيُلْبس تاجَ الكرامة.. ثم يقول : يارب زدهُ.. فيُلبس حلةَ الكرامة..
ثم يقول : يارب ارض عنه فيرضى عنه .. فيقول إقرأ وارق .. ويُزاد بكل آيةٍ حسنة ) .. رواه الترمذي وهو حديث حسن .
وروى ابن ماجة وأحمد بسند قال فيه الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ..أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب .. فيقول : هل تعرفني ؟
فيقول: ما أعرفك .. فيقول : أنا صاحبك القرآن .. الذي أظمأتك في الهواجر .. وأسهرت ليلك .. وإن كل تاجر من وراء تجارته ..
وإنك اليوم من وراء كل تجارة ..
فيعطى الملكَ بيمينه ..والخلدَ بشماله ..
ويوضع على رأسه تاج الوقار .. ويكسى والداه .. حلتين لا تقوم لهما الدنيا .. فيقولان : عمَّ +ينا هذا ؟
فيقال : بأخذ ولدكما القرآن .. ثم يقال : اقرأ .. واصعد .. في دُرَج الجنة .. وغرفها .. فهو في صعود .. ما دام يقرأ .. حدراً كان أو ترتيلاً ..
وقال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده أنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه .. فإذا كان مؤمناً .. كانت الصلاة عند رأسه .. وال+اة عن يمينه .. والصوم عن شماله ..
وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس من قبل رجليه ..
فيؤتي من قبل رأسه فتقول الصلاة : ليس قبلي مدخل ..
فيؤتى عن يمينه .. فتقول : ال+اة ليس قبلي مدخل ..
ويؤتى من قبل شماله .. فيقول الصوم : ليس قبلي مدخل ..
ثم يؤتى من قبل رجليه .. فيقول فعل الخيرات إلى الناس : ليس من قبلي مدخل ..
الحديث .. رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي : إسناده حسن .
نعم .. كان القرآن عند السلف الصالحين .. مسهراً لليلهم .. مدراً لدموعهم ..
قال عبيد بن عمير .. سألت عائشة :
أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فسكتت ثم قالت :
لما كان ليلة من الليالي .. قال : يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي ..
قلت : والله إني أحب قربك .. وأحب ما يسرك ..
فقام فتطهر .. ثم قام يصلي .. فلم يزل يبكي .. حتى بل لحيته ..
ثم بكى حتى بل الأرض ..
فجاء بلال يؤذنه بالصلاة .. فلما رآه يبكي .. قال :
يا رسول الله .. تبكي !! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ..
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً .. لقد نزلت علي الليلة آية .. ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها { إن في خلق السموات والأرض } .. رواه ابن حبان وصححه الألباني ..
أتـانا رسول الله يتلو كتابه ..كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ..بـه مـوقنـات أن ما قال واقع
يبيت يجـافي جنبه عن فراشه .. إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
* * * * * * * *
نعم كانوا يقرؤون ويبكون ..
أما بعض المسلمين اليوم .. فقد تحول القرآن عندهم إلى زخارف في البيوت .. والمتاجر .. والسيارات ..
فصاحب المتجر يعلق آيات القرآن .. وهو يتعامل بالربا .. ويحلف كاذباً ..
بل .. تشاهد الآيات في السيارات.. وأصحابها يحملون الخمر .. وعلب السجائر .. ويحين عليهم وقت الصلاة ولا يصلون ..
وتذهب إلى بعض الإدارات فتجد آيات القرآن معلقة .. وبين جدران هذه الإدارة تؤكل الرشوة .. ويحتال على المسلمين ..
بل ترى المرأة المتبرجة .. تعلق في عنقها قلادة على صورة مصحف .. وهي سافرة متكشفة .. والقرآن يقول لها : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } ..
* * * * * * * *
ولتلاوة القرآن آداب :
منها أن يتلوَه على طهارة .. والتسوك قبل التلاوة ..
والبداية بالاستعاذة والبسملة ..
وتحسين الصوت والترتيل .. لما في المستدرك وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً ) ..
ومن الآداب أن لا يجهر أحد على أحد بالقراءة فيرفع صوته ..
قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا كلكم مناجٍ لربه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا .. ولايرفع بعضكم على بعض في القراءة ) ..
وعلى الشخص الذي يجد صعوبة في التلاوة أن يصبر..
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة .. والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران ) ..
ومن الآداب : محاولة البكاء والخشوع عند التلاوة .. قال تعالى ممتدحاً المؤمنين { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } ..
أما ظاهرة إرتفاع الأصوات بالبكاء والصياح كما يقع في بعض المساجد في رمضان .. بحيث يكون الوضع مزعجاً جداً ..
وهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه .. فلم يكن بكاؤهم صياحاً ولا زعيقاً ..
ومن الآداب محاولة فهم القرآن .. والقراءة في كتب التفسير ..
ومن تأمل واقع المسلمين وجد جهلاً عاماً بمعاني القرآن ..
فلو سألت أحدهم : هل تحفظ سورة { قل هو الله أحد } .. لقال لك : نعم .. فاسأله : ما معنى الله الصمد ؟ ..
أو ما معنى الفلق ؟ ما معنى : غاسق إذا وقب ؟ { والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحاً }.. ما معناها .. هذه قصار السور ..
ما سألته عن آية في سورة البقرة وآل عمران .. وإنما عن سور يقرؤها يومياً أو تقرأ عليه .. ومع ذلك يجهل معانيها ..
فما الذي يضره لو تعلم تفسيرها ساعة من نهار ..
فينبغي على قارئ القرآن أن يحاول جاهداً أن يتفهم ما يقرؤه ..
* * * * * * * *
ومن أفضل العبادات في هذا الشهر الكريم ..الدعاء ..
ويستحب في كل وقت .. وله أوقات يتأكد فيها ..
فعند الإفطار .. للصائم دعوة لا ترد ..
وفي ثلث الليل الآخر .. حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول : ( هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ) ..
وقد مدح الله المستغفرين بالأسحار : فقال ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ) .
ويستحب للداعي أن يتحرى أوقات الإجابة .. كما بين الأذان والإقامة .. وساعةِ يومِ الجمعة .. ودبرِ الصلواتِ المكتوبةِ ..وغيرِها ..
والمرأة في ما ذكرنا ..شقيقة الرجل .. في الحرص على الطاعات .. واغتنام الأوقات ..
وبعض النساء .. يقصرن في ذلك .. فإذا أقبل رمضان .. كثر خروجهن إلى الأسواق ..
تخرج إحداهن وقد حسرت ذراعيها.. وأبدت عينيها.. أو لبست عباءة مطرزة أو مزركشة.. وقد تخرج زينة أكثر من هذه..
ورائحة العطر تفوح منها..
وبعض شبابنا يصومون في النهار.. فإذا أقبل الليل.. جمل أحدهم هندامه.. وزين ثيابه..
ثم جعل يتعرض للنساء في الأسواق .. يرمق هذه .. ويشير إلى تلك .. عجباً .. بالنهار نيام .. وبالليل لئام ..
الناس في صلاة وخشوع .. وهو يتصيد الأعراض ..
فيا لفداحة الفاجعة .. ويا للنظرات المسعورة .. والكلمات المعسولة .. فأين الرجال عن أعراضهم.. أين الغيرة على الحرمات .. أين الشهامة ..
إن لم تصُن تلك اللحوم أسودها أُكلت بلا عوض ولا أثمان
* * * * * * * *
ومن أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم .. الجود والإحسان ..
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس .. وكان أجود ما يكون في رمضان .. كان أجود بالخير من الريح المرسلة ..
فكم من حسنة إلى منكوب .. وصدقة على مكروب .. غفر الله بها الذنوب .. وستر بها العيوب ..
والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار..
والصدقة تطفئ غضب الرب..
ذكر في تاريخ بغداد.. أن فقيراً جاء إلى عبد الله بن المبارك .. فسأله أن يقضى عنه ديناً عليه .. فناوله عبد الله كتاباً .. إلى وكيل ماله ..
فذهب به الفقير .. فلما قرأه الوكيل .. قال للفقير : كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك ؟
قال : سبعمائة درهم .. فكتب الوكيل إلى عبد الله .. أن الرجل سألك أن تقضي عنه سبعمائة درهم .. وكتبت له سبعة آلاف ..
وسوف تفنى الأموال أو فنيت ..
فكتب إليه عبد الله : إن كانت الأموال قد فنيت .. فإن العمر أيضاً قد فني .. فأجز له ما سبق به قلمي ..
* * * * * * * *
وفي السير : أن ابن المبارك .. كان كثيراً ما يسافر إلى الرقة .. وينزل في خان فيها ..
فكان شاب يأتي إليه .. ويقوم بحوائجه .. ويسمع منه الحديث ..
فقدم عبد الله الرقة مرة .. فلم ير ذلك الشاب ..
فسأل عنه .. فقالوا : إنه محبوس .. لدين ركبه ..
فقال عبد الله : وكم مبلغ دينه ؟ فقالوا : عشرة آلاف درهم ..
فلم يزل عبد الله يستقصي .. حتى دُلَّ على صاحب المال .. فدعا به ليلاً وأعطاه عشرة آلاف درهم .. وحلفه أن لا يخبر أحداً ..ما دام عبد الله حياً .. وقال له : إذا أصبحت .. فاخرج الرجل من الحبس .. ثم خرج عبد الله من ليلته من الرقة ..
فلما خرج الفتى من الحبس .. قيل له : عبد الله بن المبارك كان هاهنا .. وكان يسأل عنك .. فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة .. فلما قابله .. قال له عبد الله : يا فتى .. أين كنت ؟ لم أرك في الخان ! قال : كنت محبوساً بدين ..
قال : فكيف كان سبب خلاصك ؟ قال : جاء رجل فقضى ديني .. ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس ..
فقال له عبد الله : احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك .. ثم فارقه ومضى ..
* * * * * * * *
والصدقة في رمضان لها صور متعددة ..
فمنها : إطعام الطعام :
قال تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً * وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً ) ..
وأخرج الحاكم وصححه .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( يا أيها الناس : أفشوا السلام .. وأطعموا الطعام .. وصلوا الأرحام .. وصلوا والناس نيام .. تدخلوا الجنة بسلام ) ..
وكان الصالحون يعدون إطعام الطعام من العبادات ..
وقد روى الترمذي بسند حسن .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ) ..
ومن إطعام الطعام .. تفطير الصائمين :
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين ..
وقد روى أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ) ..
* * * * * * * *
ومن أفضل الطاعات ..
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس
فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس ..
وصح عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) ..
هذا الفضل في كل الأيام فكيف بأيام رمضان ؟
* * * * * * * *
ومن الأعمال الفاضلة في رمضان : العمرة ..
ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) .. وفي رواية ( حجة معي ) ..
* * * * * * * *
ومن أفضل الطاعات أيضاً ..
تلك العبادة التي يخلو المرء فيها المرء بربه .. فيناجيه خاشعاً .. معترفاً خاضعاً ..
يدع الدنيا وراءه .. إنها العبادة التي حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم عليها طوال حياته.. إنها سُنّة الاعتكاف .. وهو لزوم المسجد وعدم الخروج منه تقرباً إلى الله تعالى .. ولا يخرج من المسجد إلا لحاجه ضرورية لابد منها .. وإلا بطل اعتكافه ..
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام .. فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً .. كما عند البخاري ..
والاعتكاف المطلوب .. ليس الاعتكاف الذي يجعل المساجدَ مهاجعَ للنائمين .. أو مجالسَ للمتزاورين .. وموائدَ للأكل .. وحلقاتٍ للضحك وفضول الكلام ..
فهذا اعتكاف لا يزداد به صاحبه إلا قسوة في قلبه ..
إن الاعتكاف المطلوب .. هو الذي تسيل فيه دموع الخاشعين .. وترفع فيه أكف المتضرعين المخبتين ..
إنه الاعتكاف الذي يسعى فيه الـمـرء جاهداً .. أن لا يصرف منه لحظة في غير طاعة..
وعلى المعتكف .. بل على الصائم عموماً .. أن يجعل لسانه رطباً من ذكر الله ..
فقد قال صلى الله عليه وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم .. وأ+اها عند مليككم .. وأرفعها في درجاتكم ..
وخير لكم من إعطاء الذهب والورق .. وأن تلقوا عدوكم .. فتضربوا أعناقهم .. ويضربوا أعناقكم .. قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله عز وجل .. أخرجه الحاكم وصححه ..
وذكر ابن رجب في اللطائف أن أبا هريرة كان يسبح في اليوم والليلة أكثر من اثني عشر الف تسبيحه .. فسئل عن إكثاره لذلك فقال : أفتك بها نفسي من النار ..
وعند الحاكم وصححه .. أن أعرابياً قال : يا رسول الله .. إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ..
فأنبئني بشيء أتشبث به .. فقال صلى الله عليه وسلم : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ..
وقد قال تعالى : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ..
فينبغي للصائم .. أن يكون مشتغلاً بالذكر والأذكار ..
فمن كانت هذه حاله في في صيامه .. أو اعتكافه وقيامه .. رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه ..
وأفضل الذكر قراءة القرآن .. فإن بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها .. والقرآن يشفع لأصحابه يوم القيامة ..
ولا شك أن الاكتفاء بختمة واحدة في هذه الأيام العشرة تفريط كبير
* * * * * * * *
كما ينبغي على المعتكف الإكثار من الصلاة .. والنوافل المطلقة والمقيدة .. كالسنن الرواتب .. وصلاة الضحى .. وغير ذلك ..
فقد روى مسلم أن صلى الله عليه وسلم قال لثوبان رضي الله عنه : عليك بكثرة السجود لله .. فإنك لا تسجد لله سجدة .. إلا رفعك الله بها درجة .. وحط عنك بها خطيئة ..
وروى مسلم أيضاً عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته .. فقال : لي سل .. فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة .. قال : أو غير ذلك ؟
قلت : هو ذاك .. قال : فأعنى على نفسك بكثرة السجود ..
والاعتكاف والصلاة ..لهما فضل عظيم ..
روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال :
( صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته.. وفي سوقه خمساً وعشرين درجة ..
ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء.. ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة.. وحط عنه بها خطيئة.. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه.. اللهم أرحمه..
ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ) ..
فإذا كان المشي إلى الصلاة وانتظارها يرفع المرء ويرقيه .. فكيف بالمكوث في المسجد .. والاعتكاف فيها أياماً وليال .. وانتظار الصلاة بعد الصلاة ..
قال الزهري : ( عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف.. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله ) ..
ومن نوى اعتكاف العشر الأواخر فإنه يدخل معتكفه قبل غروب شمس العشرين من رمضان .. ويخرج بعد غروب شمس ليلة العيد ..
ومن اجتهد في العشر الأواخر فهو حري بأن يدرك ليلة القدر ..
وهي أعظم ليالي رمضان .. بل هي خير من ألف شهر ..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ..
وكان صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر .. ويأمر أصحابه بتحريها .. وكان يوقظ أهله في ليالي