bent starmust2 مشرف
الجنس : عدد المساهمات : 1191 تاريخ التسجيل : 17/08/2009 العمر : 34 الموقع : starmust2.ahlamontada.com
بطاقة الشخصية الدرجة: (220/220)
| موضوع: موقف الشريعة الإسلامية من المُقرض والمقترض السبت 20 أغسطس - 8:40:22 | |
|
الحمد لله الغني الكريم، الواسع العليم، الرزاق العظيم، ذي الفضل والإحسان، والعطاء بلا حسبان، أحمده سبحانه وأشكره {هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض}، كمل في ذاته وأسمائه وصفاته، وتوحَّد في ربوبيته وألوهيته، عز جاره، وجل ثناؤه، وتقدَّست أسماؤه، ولا إله إلا هو. وأشهد ألا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه أكمل الناس فخراً بلا افتخار، وأعلاهم منـزلة بلا استكبار، وأوضحهم ديناً وحُجة بلا إكراهٍ للناس على دخول دينه ولا إجبار صلى الله عليه وعلى آلِه خيرِ آل، وعلى المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
أيها المسلمون، اعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ رسوله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكُل محدثةٍ بدعة.
أحبتي في الله، إن من كمال شريعة الإسلام إتيانها بمصالح العباد في العاجل والآجل، ومع أن الله خلقنا للآخرة، ومع أن الدنيا عُمرُها قليل، ومع أنها يسكنها أولياؤه وأعداؤه، ومع أنها الشر فيها أكثر من الخير إلا أنه سبحانه وضع فيها مصالحها، وبيَّن للناس سُبُلهم، ويسَّر عليهم أمرهم، أوليس عجَباً من كَرَمِ الله أن تكون الدنيا التي هذه حالها يبعثُ الله فيها ولأهلها محمداً صلى الله عليه وآله وسلَّم، أوليس فضلاً من ربِّنا وإحساناً أن يقضي لنا في خصوماتنا وديوننا وتنـزل في ذلك آيةٌ هي أطولُ آيةٍ في كتابه {يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدين إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل...}، ألم تروا يا رعاكم الله كيف يتناول كتابُ الله قضيةً مثل حيض النساء {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله...}، ألم يَقسم ربنا أموالنا حتى بعد الممات بل وأوصانا في ذلك بأولادنا أحسن الوصايا {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كُن نساءً فوق اثنتين فلهن ثُلُثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف...}، وهكذا في أحكام كثيرة كثيرة يرى الموفقون من هذه الأمة أنها من مقتضيات رحمته بخلقه، وكمال إحسانه إليهم، ويراها المنافقون والمخذولون أغلالاً يُعذِّبهم الله بها في الدنيا قبل عذاب الآخرة.
أيها المسلمون، ومن هذه الأمور التي فصَّلت فيها الشريعة، ومهَّدت السُبُلَ فيها لأفضلِ سبيلٍ= أمورُ المال والمعاش، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح فبيَّن صلى الله عليه وآله وسلَّم أن التعامل مع المال أخذاً وإعطاء يحتاج من المسلم إلى بصيرةٍ وتريُّث فالمال فتنة، والفتنة تكون خيراً لأناسٍ يعملوا فيها بطاعةِ الله، وتكون وبالاً على أُناسٍ يخوضوا فيها بجهلهم ولا يراعون أوامر الله وزواجره. والمال يفيضُ عند أُناسٍ ويبتليهم الله بالغنى، ويشح ويجف عند آخرين فيبتليهم الله بالفقر، ويبتلي الله الفقير بالغني، والغني بالفقير ليعلم من يشكره ويصبر على أمره وقضائه، ومن يكفره فيجزعُ أو يبخل عن واجبٍ فرضه الله عليه. ورغَّبت الشريعة في التعاون بين المؤمنين، وجعلت لذلك طُرُقاً ورغَّبت في ال+اة والصدقة، وحثَّت على الإقراض الحسن، ووردت في القرض والإقراض نصوصٌ كثيرةٌ تبين اعتدالَ هذه الشريعة ومجيئَها بمصالح العباد؛ بمصلحة المُقرِضِ ومصلحةِ المُقترِض.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل قرض صدقة)) رواه الطبراني وحسَّنه المنذري والألباني.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة)) رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي مرفوعا وموقوفا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) رواه مسلم.
وهذا الحديث كما يتضمن التيسير على المُعسِر بإقراضه، فإنه يتضمَّن كذلك التيسير عليه حين لا يجد سداداً إما بإمهاله، وإما بالوضع عنه، فيخفِّفُ عنه من دينه أو يتجاوز عنه، وقد وردت بهذا المعنى عدة أحاديث أذكرها بعد قوله تعالى في الشأن المدين {وإن كان ذو عُسرةٍ فنظِرةٌ إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}، وأما ألأحاديث فمنها:
عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر، قال: آلله، قال: آلله. قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن يُنجِّيه الله من كُرَب يوم القيامة فليُنفِّس عن مُعسر، أو يضع عنه)) رواه مسلمٌ وغيره.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالا فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ -قال: {ولا يكتمون الله حديثا}- قال: يا رب آتيتني مالا فكنتُ أُبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أُيسر على الموسر، وأُنظر المعسر. فقال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي. فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وعن بريدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنظر معسراً فله كل يوم مثله صدقة)) ثم سمعته يقول: ((من أنظر مُعسراً فله كل يوم مثليه صدقة)) فقلت: يا رسول الله سمعتُك تقولُ ((من أنظر معسراً فله كل يوم مثله صدقة)) ثم سمعتك تقول ((من أنظر معسرا فله كل يوم مثليه صدقة)) قال: ((له كلُ يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدَّين، فإذا حل فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة)) رواه الحاكم، ورواه أحمد وابن ماجه بمعناه.
ومع ذلك أحبتي في الله، مع أن الشريعة رغَّبت في بذل المال عن طريق القرض لمستحقه والمحتاجِ إليه، فإنها ضيَّقت في شأن الاقتراض على المُقترِض، ونفَّرت منه إلا من حاجة، وذكر بعضُ أهل العلم أن الأصل في القرض الكراهة للمقترض، واستدلوا لذلك بنصوصٍ وأوجهٍ كثيرةٍ، فمن ذلك:
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) فقال له قائل: ما أكثرَ ما تستعيذُ من المغرم يا رسول الله. فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف)) متفق عليه. قال العيني رحمه الله: ((وفيه بشاعة الدَّين وشدَّته... وفيه وجوب الاستعاذة من الدَين لأنه يَشين في الدنيا والآخرة)).
وعن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز وال+ل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال)) متفق عليه. قال الحافظ ابنُ حجر: ((والمراد منه ثقل الدين وشدته)).
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) رواه مسلم.
وعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم؛ فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضلُ الأعمال؛ فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله أرأيت إن قُتلت في سبيل الله يُكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، إنْ قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب مُقبلٌ غيرَ مُدبر)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف قلت؟)) فقال: أرأيتَ إن قُتلت في سبيل الله أيُكفَّرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غيرَ مُدبرٍ، إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك)) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نفسُ المؤمن معلقةٌ بدَينه حتى يُقضى عنه)) رواه الشافعي وأحمد والترمذي وغيرهم.
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يمتنع عن الصلاة على المدين في أول الأمر، فعن جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل فغسَّلناه وكفَّناه وحنَّطناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه. فخطا خطوة ثم قال: ((أعليه دين؟)) قلنا: ديناران. فانصرف!! فتحملهما أبو قتادة؛ فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران علي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أوفى الله حق الغريم وبرىء منهما الميت؟)) قال: نعم. فصلى عليه. ثم قال بعد ذلك بيومين: ((ما فعل الديناران؟)) قلت: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتُهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآن بَرَدَت جلدتُه)) رواه أحمد وغيره.
فهذه خمسة أحاديث في التنفير من الدين لأن المدين يشغل ذمته بحق الخلق، ويكون من ذلك على خطر، فربما استطاع الأداء، وربما لم يستطع الوفاء بحقوق الغرماء، فيُدخلُ على نفسه الغمَّ والحزن، ويستعيض من الدين بدينٍ آخر، وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُخيفوا أنفسكم)) أو قال: ((الأنفس))، قالوا: يا رسول الله وما نُخيفُ أنفُسنا؟، قال: ((الدَّين)). رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما. قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره [تفسير القرطبي - (3 / 417)]: قال علماؤنا: وإنما كان شيناً ومذلة لما فيه من شَغل القلب والبال، والهمِّ اللازم في قضائه، والتذلُّلِ للغريم عند لقائه، وتحمُّلِ مِنَّتِه بالتأخير إلى حين أوانه. ورُبَّما يَعِدُ مِن نفسِه القضاءَ فَيُخلف، أو يُحدِّثُ الغريم بسببه فيكذب، أو يحلفُ له فيَحنَث، إلى غير ذلك. ولهذا كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم، وهو الدين... وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به، كما قال عليه السلام: ((نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يُقضى عنه)). وكل هذه الأسباب مَشَايِنُ في الدِّين تُذهب جماله وتُنقص كماله، والله أعلم. اهـ
وقد اشترط العلماء شروطاً لجواز الاستدانة، أولها: أن يكون المدين عازماً على الوفاء، فإن أخذ أموال الناس يريد إتلافها، ويتعمد عدم ردها= أتلفه الله، والشرط الثاني أن يغلب على ظنه أنه يستطيعُ أن يوفِّي صاحب المال ماله، ويرد إليه حقوقه، والشرط الثالث: أن يكون الدَّينُ في أمرٍ مشروع لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه، ما لم يكن فيما يكره الله)) رواه الدارمي وابن ماجه وحسنه جمعٌ من العلماء. فأين هذا ممن يستدين لسفر المعصية، أو لشاليهات البطالة والمجون، أو لتجديد أثاث البيت وتكبير التلفاز، أو حتى لشراء سيارة جديدة مع أن سيارته الأولى تقوم بمصالحه، ولا تُزري به. أما إن هذا من قلة التدبر في عواقب الأمور الدينية والأخروية.
وأما بعد الاستدانة والوقوع فيها فقد ورد بأن الله يكون مع المدين حتى يوفي دينه ما لم يكن فيما يكرهه تعالى كما سبق، وورد أن الله يؤدي عنه يعني أنه يعينه على الأداء:
فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله عليه)) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي قال : استقرض مني النبيُ صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً، فجاءه مال فدفعه إلي، وقال: ((بارك الله في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمدُ والأداء)) أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. وفي هذا الحديث التنبيه –أيضاً- على الاعتراف بالمعروف، والشكر لأهله عليه ((إنما جزاء السلف: الحمدُ والأداء)).
ومما قصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الترغيب في حُسن الوفاء ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل سَأَلَ بعضَ بني إسرائيل أن يُسلفه ألفَ دينار؛ فقال: ائتني بالشهداء أُشهدهم. فقال: كفى بالله شهيداً. قال: فائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال صَدَقتَ؛ فَدَفَعَها إليه إلى أَجَلٍ مُسمى. فَخَرَجَ في البحر فَقَضَى حاجته ثم التَمَسَ مركَباً يركبه ويَقدُمُ عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركَباً؛ فأخذ خشبة فنقرها؛ فأدخل فيها ألفَ دينار وصحيفةً منه إلى صاحبها، ثم زجَّج موضعَها، ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلاً فرضي بك، فسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً فرضي بك؛ وإني جَهِدتُ أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها!! فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده. فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله فإذا الخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة.
ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلتُ جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئتُ فيه.
قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟، قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثتَه في الخشبة، فانصرِف بالألفِ الدينار راشدا)) رواه البخاري معلقاً مجزوماً والنسائي وغيره وهو حديث صحيح.
فيا عباد الله ما أجمل التقوى، وما أحسن أثرها، أما إنه لو اتقى المدين ربه فيما يستدين، واتقى الدائن ربه في خلق الله فما توانى عن مصلحته ولا أعنت الناس عند قضاء الله وقدره، لكانت الدنيا خيراً من الدنيا، ولأدَّى الله وأصلح، ولكن الله يكمِّل بالفضائل الفضلاءُ والكَمَلَةُ من الناس، ويجعل الدون للدون.
فاللهم ألهِمنا رُشدنا، وقِنا شرور أنفسنا، وأصلح لنا شأننا كُله يا رب العالمين.
الحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه تُرجعون، أشهد ألا إله إلا هو رباً عليماً حكيماً، وأشهد أن محمداً عبدَ الله ورسولَه ومصطفاه وخليلَه خيرُ الناس للناس، وأرحم الخلق بالخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
أحبتي في الله، لما بُني الاقتصادُ المُعاصر بشكله الرأسمالي على مصالح الأقوياء دون الضعاف، وعلى استغلال الكبار لظروف وحاجات الصغار، ولما استهتروا في تحريم الربا الذي حرَّم الله عليهم بسببه من طيبات ما أحل الله لهم {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } فذكر أنه نهاهم عنه= لما كان ذلك بهذه الصورة وأشد، تفننت المؤسسات المالية بصور وأشكال ومنتجات لسحب الناس إلى ورطة الاقتراض والتمويل ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وقدَّموا للناس في ذلك تسهيلاتٍ كثيرة، وضمانات متعددة لإشغال ذممهم بمنتجاتهم مقابل عوائد مجزية تعود لهذه البنوك والمؤسسات المالية والقائمين عليها، فضلاً عن عملياتٍ قد أشرنا إليها سابقاً وهي كذلك من المحرمات في الشريعة من بيوع الديون بعضها ببعض ومن أكل الربا أضعافاً مضاعفة عن طريق المشتقات المالية وغيرها مما كان له أثر كبيرٌ في نكبتهم الاقتصادية المعاصرة. وتابعت كثيرٌ من المؤسسات الاقتصادية الإسلامية هذه الرغبة المحمومة في عمليات التمويل، وتذرعوا بوسائل منها المشروع ومنا غير المشروع لل+ب من وراء هذه العمليات، فسهَّلوا على الناس الدخول في مثل هذه العمليات، ورغَّبوهم بالاقتراض والإقبال على السلع في الكماليات والفضول من الأمور، فضلاً عن الدخول في مثل ذلك في العقود الربوية المحرمة، وهو أمرٌ لعل الله أن يُيسِّر له حديثاً مُستقلاً.
أيها الناس، المال ومتاع الدنيا حلوةٌ خضرة، ولكن الأعمال بالخواتيم. إن التداعي للإقراض، والسعي المحموم للاقتراض باب من أبواب الهلكة على كثيرٍ من الناس، وتسليطٌ للشياطين والشهوات على خلق الله. ثُم إن البنوك إنما تُقرض المليء الذي تعرفه قدرته على السداد، وتفتح له أبوابها، وتُغلقُ أبوابها دون الفقير والمُحتاج الذي من أجله حثَّت الشريعة على الإقراض حتى يؤول الأمر إلى ع+ قول الله تعالى عن المال: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ}، فها هنا نعلم أن في المسألة خللاً. وقد جاءت الشريعة في مثل هذه الأحوال بمبادئ متعددة لم يكن الإقراض وحده هو المبدأ الصحيح منها، بل إن هناك الإجارة، وخيرٌ منها المشاركة حيث تستوي الأطراف في الربح والخسارة، وتعود بالخير الوفير على جميع الأطراف دون مراعاة لطرف على حساب طرف آخر، أو للأغنياء على حساب الفقراء.
ومن الأمور التي فشت بين الناس في هذه الأيام عمليات التمويل والتي كثيراً ما تدخلها الحُرمة أو الشُبهة، وبطاقات الفيزا التي تسهِّل عليك شراء ما لا تحتاج إليه، وكم في الناس من متورِّط بسبب الفيزا، فضلاً عن أن عقود هذه البطاقة -باستثناء مؤسسات قليلة- تتضمن الإقرار والتوقيع على الموافقة على الربا، وأنك توافق على أن يأخذوا منك في حالة عدم السداد فوائد ربوية على تأخير السداد.
ولذا فأنا أسأل الله لي ولكم أن يجعلنا أغنى خلقه به، وأن يوسِّع علينا من فضله وإحسانه ما يُغنينا به عمن أغناه عنا من خلقه، وأن يرزقنا التواضع والقناعة، وعدم الشره في طلب الدنيا، فكم غرَّت الدنيا من أُناسٍ وسحرتهم، وأركضتهم خلفها ثُم تركتهم صرعى لها، لا يلوون على شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
| |
|