بَاب بَيَانِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَدَعَائِمِهِ الْعِظَامِ
صحيح مسلم بشرح النووي
( بَاب بَيَان أَرْكَان الْإِسْلَام وَدَعَائِمه الْعِظَام )
قَالَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّه : ( حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر الْهَمْدَانِيُّ ثنا أَبُو خَالِد يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْن حَيَّانَ الْأَحْمَرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ عَنْ سَعْد بْن عُبَيْدَة عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْسَة : عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ , وَإِقَام الصَّلَاة , وَإِيتَاء الزَّكَاة , وَصِيَام رَمَضَان , وَالْحَجّ . فَقَالَ رَجُل : الْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ . فَقَالَ : لَا صِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ . هَكَذَا سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة : بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْسٍ : عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ , وَإِقَام الصَّلَاة , وَإِيتَاء الزَّكَاة , وَحَجّ الْبَيْت , وَصَوْم رَمَضَان ) .
وَفِي الرِّوَايَة الثَّالِثَة : ( بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس : شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله , وَإِقَام الصَّلَاة , وَإِيتَاء الزَّكَاة , وَحَجّ الْبَيْت , وَصَوْم رَمَضَان ) .
وَفِي الرِّوَايَة الرَّابِعَة : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : أَلَا تَغْزُو ؟ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : إِنَّ الْإِسْلَام بُنِيَ عَلَى خَمْسَة : شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , وَإِقَام الصَّلَاة , وَإِيتَاء الزَّكَاة , وَصِيَام رَمَضَان , وَحَجّ الْبَيْت ) . أَمَّا الْإِسْنَاد الْأَوَّل الْمَذْكُور هُنَا فَكُلّه كُوفِيُّونَ إِلَّا عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَإِنَّهُ مَكِّيّ مَدَنِيّ .
وَأَمَّا ( الْهَمْدَانِيُّ ) فَبِإِسْكَانِ الْمِيم وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة وَضُبِطَ هَذَا لِلِاحْتِيَاطِ وَإِكْمَال الْإِيضَاح وَإِلَّا فَهُوَ مَشْهُور مَعْرُوف , وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْت فِي آخِر الْفُصُول أَنَّ جَمِيع مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فَهُوَ هَمْدَانِيّ بِالْإِسْكَانِ وَالْمُهْمَلَة .
وَأَمَّا ( حَيَّان ) فَبِالْمُثَنَّاةِ , وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْفُصُول بَيَان ضَبْط هَذِهِ الصُّورَة .
وَأَمَّا ( أَبُو مَالِك الْأَشْجَعِيّ ) فَهُوَ سَعْد بْن طَارِق الْمُسَمَّى فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ .
وَأَمَّا ضَبْط أَلْفَاظ الْمَتْن فَوَقَعَ فِي الْأُصُول ( بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْسَة ) فِي الطَّرِيق الْأَوَّل وَالرَّابِع بِالْهَاءِ فِيهَا , وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث ( خَمْس ) بِلَا هَاءٍ , وَفِي بَعْض الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة فِي الرَّابِع بِلَا هَاء . وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَالْمُرَاد بِرِوَايَةِ الْهَاءِ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ أَوْ أَشْيَاءَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , وَبِرِوَايَةِ حَذْف الْهَاء خَمْسُ خِصَالٍ أَوْ دَعَائِمَ أَوْ قَوَاعِدَ أَوْ نَحْو ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَقْدِيم الْحَجّ وَتَأْخِيره فَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى وَالرَّابِعَة تَقْدِيم الصِّيَام , وَفِي الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة تَقْدِيم الْحَجّ . ثُمَّ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِنْكَار اِبْن عُمَر عَلَى الرَّجُل الَّذِي قَدَّمَ الْحَجّ مَعَ أَنَّ اِبْن عُمَر رَوَاهُ كَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ . وَالْأَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ اِبْن عُمَر سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً بِتَقْدِيمِ الْحَجّ , وَمَرَّةً بِتَقْدِيمِ الصَّوْم , فَرَوَاهُ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَلَمَّا رَدّ عَلَيْهِ الرَّجُل وَقَدَّمَ الْحَجّ قَالَ اِبْن عُمَر : لَا تَرُدَّ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ وَلَا تَعْتَرِضْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ , وَلَا تَقْدَح فِيمَا لَا تَتَحَقَّقهُ بَلْ هُوَ بِتَقْدِيمِ الصَّوْم هَكَذَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي هَذَا نَفْيٌ لِسَمَاعِهِ عَلَى الْوَجْه الْآخَر . وَيُحْتَمَل أَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ سَمِعَهُ مَرَّتَيْنِ بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا , ثُمَّ لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ نَسِيَ الْوَجْهَ الَّذِي رَدَّهُ فَأَنْكَرَهُ . فَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ هُمَا الْمُخْتَارَانِ فِي هَذَا .
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى : مُحَافَظَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهْيُهُ عَنْ عَكْسِهِ تَصْلُحُ حُجَّةً لِكَوْنِ الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاء الشَّافِعِيِّينَ , وَشُذُوذ مِنْ النَّحْوِيِّينَ . وَمَنْ قَالَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَهُوَ الْمُخْتَار وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ , فَلَهُ أَنْ يَقُول : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بَلْ لِأَنَّ فَرْضَ صَوْمِ رَمَضَانَ نَزَلَ فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة , وَنَزَلَتْ فَرِيضَة الْحَجّ سَنَة سِتّ , وَقِيلَ سَنَة تِسْع بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق . وَمِنْ حَقِّ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الثَّانِي . فَمُحَافَظَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لِهَذَا وَأَمَّا رِوَايَة تَقْدِيم الْحَجّ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ مِمَّنْ كَانَ يَرَى الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَيَرَى أَنَّ تَأْخِير الْأَوَّل أَوْ الْأَهَمّ فِي الذِّكْر شَائِع فِي اللِّسَان فَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير لِذَلِكَ مَعَ كَوْنه لَمْ يَسْمَع نَهْيَ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ . فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُشْكِل الَّذِي لَمْ أَرَهُمْ بَيَّنُوهُ . هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو بْن الصَّلَاح وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَتَا فِي الصَّحِيح وَهُمَا صَحِيحَتَانِ فِي الْمَعْنَى لَا تَنَافِي بَيْنهمَا كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فَلَا يَجُوز إِبْطَال إِحْدَاهُمَا .
الثَّانِي أَنَّ فَتْح بَاب اِحْتِمَال التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فِي مِثْل هَذَا قَدْح فِي الرُّوَاة وَالرِّوَايَات فَإِنَّهُ لَوْ فُتِحَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَنَا وَثِيق بِشَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَات إِلَّا الْقَلِيل , وَلَا يَخْفَى بُطْلَانُ هَذَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَتَعَلُّقِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي عَوَانَة الْإِسْفَرَايِينِيّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ شَرْطِهِ عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْل الرَّجُل لِابْن عُمَر قَدَّمَ الْحَجَّ فَوَقَعَ فِيهِ أَنَّ اِبْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ لِلرَّجُلِ : اِجْعَلْ صِيَام رَمَضَان آخِرهنَّ كَمَا سَمِعْت مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه : لَا يُقَاوِمُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قُلْت : وَهَذَا مُحْتَمَلٌ أَيْضًا صِحَّتُهُ وَيَكُون قَدْ جَرَتْ الْقَضِيَّة مَرَّتَيْنِ لِرَجُلَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَأَمَّا اِقْتِصَاره فِي الرِّوَايَة الرَّابِعَة عَلَى إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ , فَهُوَ إِمَّا تَقْصِير مِنْ الرَّاوِي فِي حَذْف الشَّهَادَة الْأُخْرَى الَّتِي أَثْبَتَهَا غَيْره مِنْ الْحُفَّاظ , إِمَّا أَنْ يَكُون وَقَعَتْ الرِّوَايَة مِنْ أَصْلهَا هَكَذَا , وَيَكُون مِنْ الْحَذْف لِلِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِ الْقَرِينَتَيْنِ وَدَلَالَته عَلَى الْآخَر الْمَحْذُوف . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ هُوَ بِضَمِّ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَفَتْحِ الْحَاء مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ , أَمَّا اِسْم الرَّجُل الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا تَقْدِيمَ الْحَجِّ فَهُوَ يَزِيدُ بْن بِشْرٍ السَّكْسَكِيّ ذَكَرَهُ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه الْأَسْمَاء الْمُبْهَمَة .
وَأَمَّا قَوْله : ( أَلَا تَغْزُو ) ؟ فَهُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق لِلْخِطَابِ . وَيَجُوز أَنْ يُكْتَبَ تَغْزُوا بِالْأَلِفِ , وَبِحَذْفِهَا . فَالْأَوَّل قَوْلُ الْكُتَّابِ الْمُتَقَدِّمِينَ , وَالثَّانِي قَوْل بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ الْأَصَحّ . حَكَاهُمَا اِبْن قُتَيْبَة فِي أَدَب الْكَاتِب .
وَأَمَّا جَوَاب اِبْن عُمَر لَهُ بِحَدِيثِ : بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس , فَالظَّاهِرَة أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ الْغَزْو بِلَازِمٍ عَلَى الْأَعْيَان ; فَإِنَّ الْإِسْلَام بُنِيَ عَلَى خَمْس لَيْسَ الْغَزْوُ مِنْهَا . وَاَللَّه أَعْلَمُ . ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيث أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي مَعْرِفَة الدِّين وَعَلَيْهِ اِعْتِمَاده وَقَدْ جَمَعَ أَرْكَانَهُ . وَاَللَّه أَعْلَمُ