molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الأندلس وسقوط غرناطة - عبد الرحمن بن الصادق القايدي الخميس 1 ديسمبر - 5:27:48 | |
|
الأندلس وسقوط غرناطة
عبد الرحمن بن الصادق القايدي
الخطبة الأولى
لا زلنا ـ أيها الأحبة في الله ـ نتحدث عن أوضاع المسلمين في الأندلس بعد أن فسدت أحوالهم وتقطّعت العلاقات فيما بينهم حينما بعدوا عن دين الله، بينما إخوانهم الفاتحون حينما دخلوا بلاد الأندلس كانوا قد انصهروا في بوتقة الإسلام وأصبحوا حقيقة إخوانًا وكان شعارهم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، ومعيارهم في المفاضلة هو التقوى والعمل الصالح؛ ولهذا عملوا جميعًا تحت راية واحدة وهي أن يكون الدين كلّه لله؛ ونتيجة لهذا الشعور وهو البعد عن التعصّب للجنس أو القبيلة استطاع أولئك الأبطال أن يكتسحوا أرض العدوّ وينشروا هذا الدين الحنيف، وكان شعورهم هذا ناتجًا عن قناعة بأن مهمتهم عالمية وأن كلمة الله يجب أن تبلغ ما بلغ الليل والنهار، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
هكذا كان واقع مسلمي الأندلس خلال القرون المفضّلة، ثم بدأت بعد ذلك عوامل الضعف تنخر في المجتمع الإسلامي، وكان من أشدها فتكًا روح العصبية القبلية، ومن ثم دخلت العصبية القبلية منعطفًا خطيرًا حينما أصبحت بين العرب وبين البربر، وقد أمر أحد الحكام بملاحقة البربر والفتك بهم، كما أمر مناديه أن ينادي في الناس أن من أتى برأس بربري فله كذا وكذا، فتسارع الناس في قتل من قدروا عليه، فلم يبق تاجر ولا جندي إلا عمل مجهوده في ذلك، فنهبت ديار البربر وهُتكت أعراضهم وسُبيت نساؤهم حتى إنهم دخلوا على المجاهد وسنار البرزالي وهو ممن له باع كبير في الجهاد، فذبح على فراشه في داره.
هكذا كانت بداية ذلك التحوّل الخطير بين أجناس المجتمع الإسلامي بالأندلس؛ مما أدى إلى حرب أهلية بينهم، واستغل النصارى هذا الخلاف واستفادوا منه وسخّروه لخدمة مصالحهم، مما أضعف المسلمين ومكّن العدو النصراني منهم. ولم يكن الخروج من هذه النكبة القبلية سهلاً، فلقد سُفكت الدماء وانتشرت الثارات بينهم وفسدت القلوب مما حدث حتى لو أن شخصًا حاول أو ذكر فكرة الصلح بين القبائل يقتل.
إنّ هذا الوباء الذي حلّ بساحة المسلمين في الأندلس كان من أكبر الأوجاع التي عملت على إضعافهم معنويًا وماديًا، ومن ثم عجزوا عن إدارة شؤونهم فضلاً عن مقاومة أعدائهم والتصدي لهم، فشجع ذلك النصارى على التدخل فيما بين المسلمين، وزادوا من هوة الخلاف بينهم، كما أعملوا السيوف في رقابهم، لا سيما حينما وقفوا مع الخليفة المهديّ ضدّ إخوانه في الدين من البربر، واستفادوا من هذا الخلاف، وأَملَوا شروطهم على الخليفة فقبلها، ومن أهمها أن يسلّمهم مدينه من المدن الساحلية ذات الحصون المنيعة ويحوّلوا مسجدها إلى كنيسة ففعل، وأن يقدّم لهم جزية سنويّة ويوفّر ما يلزمهم من المؤَن والطعام والشراب ففعل، كما اشترطوا عليه أن للنصارى كلّ ما حازوه من عسكر إخوانه البربر من سلاح وكراع، وأن نساء البربر ودماءهم وأموالهم حلال لهم لا يحول أحد ولا يتدخل بينهم.
وعلى الرغم من تعنت النصارى في شروطهم فقد قبلها المهديّ طمعًا في الوصول إلى الحكم، ضاربًا بمصلحة البلاد والعباد الدينية والدنيوية عرض الحائط، ودون أن يحسب حسابًا للعواقب السيئة المترتبة على هذا العمل الخسيس، واستمر الوضع في جميع أنحاء الأندلس على هذه الكيفية، يستعين المسلم بالكافر ضد إخوانه في الدين، والنصارى يشترطون ويتوسّعون في الحصول على مزيد من المدن والحصون المهمّة حتى لم يبق للمسلمين إلا مملكة غرناطة التي تحصّن بعض من قبائل بني الحمر ونجحوا في الاستقرار فيها لمدة قرنين من الزمان، إلا أن النصارى لم يتوقّفوا عن التحرش بهم والإيقاع بينهم، إلى أن اشتعلت الفتن بينهم مرة أخرى، حيث استعان الأمير أبو الحجاج بملك قشتاله طالبا العون على انتزاع العرش من ابن عمه السلطان الأيسر في مقابل تعهّده بأن يحكم غرناطة باسم ملك قشتاله، وكانت فرصة ذهبية استغلها الملك النصراني ووافق عليها بشروط مجحفة ومهينة للطرف المسلم، وأولها أن يكتب الأمير إقرارا بأنه من أتباع ملك قشتاله ويحكم باسمه، وأن يتعهّد هذا الأمير أن يدفع جزية سنوية مقدارها عشرون ألف دينار ذهبي، وأن يقدم ألفين وخمسمائة فارس إلى ملك قشتاله لمحاربه أعدائه سواء أكانوا من المسلمين أو النصارى.
وطبقًا لهذه العهود والمواثيق وتنفيذًا لبنودها تحركت القوات القشتاليه لمعاونة الأمير أبي الحجاج ضد ابن عمه السلطان الأيسر، ونشبت بينهما معركة شديدة انتهت بهزيمة الأيسر ودخول الحجاج غرناطة ظافرًا بمؤازرة النصارى. وكان أول عمل عمله بعد جلوسه على العرش أن جدّد المعاهدة السابقة مع ملك قشتاله بما فيها من تنازلات مهينة. وما كان أحد يظن أن شمس الإسلام التي أشرقت على أرض الأندلس ستغرب عنها يومًا، وأن الأذان الصادح من فوق المآذن سيتحول إلى أصوات أجراس من فوق أعواد الكنائس ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن هذه المعاهدة كانت مسمار النعش والخطوة الخطيرة لإزالة الوجود الإسلامي من إسبانيا بعد سنوات قليلة، وهذا ما حدث عندما أرسل الملكان الكاثوليكيان الملك "فرديناند الخامس" والملكة "إيزابيلا" إلى أبي عبد الله الصغير أمير غرناطة يطلبان منه تسليم مدينة الحمراء مقرّ الملك والحكم وأن يبقى هو مقيمًا في غرناطة في طاعتهما وتحت حمايتهما أو أن يقتطعاه أيّ مدينة أخرى يختار الإقامة فيها.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله القاهر فوق عباده وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
وهكذا تجرأ النصارى وطلبوا من أبي عبد الله تسليم مدينة الحمراء وقصر الحكم، وفي البداية رفض وقامت معارك شديدة وحاصر النصارى غرناطة بجيش قوامه خمسون ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، وضربوا حصارًا شديدًا حولها، وأتلفت الحقول الزراعية القريبة ليمنع عنها المؤن والغذاء، وقطع كل اتصال لها بالخارج سواء من البحر والبر، ولبثت المدينة عدة أشهر تعاني الحصار الشديد حتى دخل الشتاء ونزلت الثلوج واشتد بالناس الجوع والبلاء وقلت المؤن، فالأحوال تزداد سوءًا، والمسلمون تتفاقم محنتهم، وانقطع الأمل في وصول نجدة من بلاد المغرب المجاورة بسبب الحصار الشديد. فلما ازدادت الأحوال تعقيدًا تداعت أصوات من بعض القادة والوجهاء بضرورة التسليم حفاظًا على الأرواح، وكان السلطان أبو عبد الله وبعض وزراء يتزعمون هذه الدعوى الجبانة، وضاع في زحام تلك الدعوة المتخاذلة أصوات البطولة والفداء في النفوس الأبية التي رفضت هذا الاستسلام المهين، ولكن أصوات المسؤولين نجحت في اختيار الوزير أبي القاسم لمهمة التفاوض مع الملكين بشروط التسليم، وفي نفس الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات التسليم عقدت معاهدة سرية أخرى منح فيه السلطان أبو عبد الله وبعض الوزراء منحًا خاصة ما بين ضياع وأموال نقدية.
أما شروط التسليم فقد بلغت 56 مادة، منها أن يتعهّد أبو عبد الله بتسليم غرناطة إلى الملكين خلال ستين يومًا، وأن يؤمّن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يتمتعوا بحرية إقامة شعائرهم من صلاة وصيام، وأن لا يدخل نصرانيّ مسجدًا أو دار مسلم، وأن لا يُوَلَّى على المسلمين نصراني أو يهودي.
وكل هذه العهود والمواثيق لم تكن سوى ستار للغدر والخيانة، فلقد تمّ نقض كلّ هذه الشروط وأُجبِر المسلمون على التنصر أو القتل، ولما كشفت أنباء الموافقة على تسليم غرناطة وأنباء المعاهدة السرية مع السلطان أبي عبد الله غضب الشعب وأصر على القتال، فخشي السلطان أن تفلت الأمور من يديه، فسلم المدينة قبل الموعد المحدد، وفي هذا اليوم الحزين دخلت القوات النصرانية إلى المدينة، وأطلقت المدافع في قصر الحمراء طلقاتها إيذانًا بالاستعداد للتسليم، ورفعت فوق برج القصر الأعلى صليبًا فضيًا كبيرًا، وأعلن المنادي بصوت قوي يَصُمُّ الآذان أن غرناطة عادت نصرانية كما كانت من قبل. وباستيلاء النصارى على غرناطة طويت آخر صفحة من تاريخ دولة المسلمين في الأندلس، وقضي على الحضارة الأندلسية بسبب البعد عن الدين والانغماس في متع الدنيا وترك الجهاد، وغادر آخر سلاطين غرناطة عن غرناطة، وحين ابتعد عنها توقف والتفت إلى قصورها وبكى بكاءً مريرًا، فقالت له والدته: "ابك مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال".
ثم صلوا على إمام المجاهدين وسيد الغر المحجلين الذي قال: ((ما ترك قوم الجهاد إلا ذَلُّو)).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
| |
|