بعد سيل جدة - عبد الحكيم بن راشد الشبرمي

بعد سيل جدة

عبد الحكيم بن راشد الشبرمي

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله أيها المباركون، واستعدُّوا للعرض عليه، واعلموا أن الدنيا دارُ ارتحال، والآخرةَ مَحَطُّ الرحال، والموتَ قاطعُ الآمال. فأعدّوا ليوم الرحيل، واحذروا الشيطانَ وشَرَكَهُ الوبيل.

عبادَ الله، ها هو ذا حَبْرٌ من الأحبار يدخل على سيِّدنا محمد فيقول له -كما في الصحيحين-: يا محمد، إنّا نجدُ أنّ الله يجعل السمواتِ على إصبَعٍ، والأرضينَ على إصبع، والشجرَ على إصبع، والماءَ والثرى على إصبع، وسائرَ الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملِك، فتبسّم النبيُّ حتى بدت نواجذُه تصديقًا لقولِ الحَبْر، ثم قرأ رسول الله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون.

نعم، إنها قوّةُ الله وقدرتُه وسطوتُه، وفي قوله تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ، قال المفسِّرون: "يتشقّقن من عظمة الله جل وعلا".

ويكفي في تأمل عظمته وقدسيته وقوّته وقدرته قوله جل جلاله: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. فسبحان الربِّ العظيمِ ذي العرش العظيم! وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.

ويا لهول القيامة الذي يظهر فيه ضعفُ البشر وخوفُهم وقلّةُ حيلتهم! يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. يرى الناسُ أهوالًا يسيرةً في دنياهم من كوارثَ وجوائحَ ومصائبَ مفزعة، فيَجِلُون ويَرْهبون ويفزعون. ووالله، إنهم ما رأوا إلّا شيئا يسيرا من قوّة الله وقدرتِه، يجعلها مدَّكرا لهم ومعتبرا. فهل يُعِدُّون لهول ذلك اليوم الذي تنقلب فيه أنظمةُ الكونِ ومداراتُه وتختلف الأحوالُ وتبدو الأهوال؟! إنّ السعيدَ من حرّكتْه المواعظُ ليسيرَ إلى اللهِ والدار الآخرة، والغافلَ من لجَّ في هواهُ وغاب عن الادّكار والاعتبار، قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أيُّها المسلمون، المؤمنُ يُبتلى ويُمحَّص، ويُحكَّكُ ويُضرَّس، ويُرفعُ بهذا البلاء واللَأْواء، والناسُ بين خيرٍ وضُرٍّ، وعافيةٍ وبلاء، وليس لهم في أيام الرخاء إلا الشكرُ والثناء، ولا في أيام المحنة والبلاء إلا الصبرُ والدعاء، وقد اقتضت حكمةُ الله سبحانه أنه ما من ليلٍ إلا بعده صباح، وما من ضيقٍ وشدّة إلّا بعده فرحٌ وفلاح.

تصبّــــرْ إنَّ عقبَى الصبرِ خيرٌ ولا تجــــــزعْ لــــــنــــــائبــــــةٍ تــــــنــــــوبُ

فـــــإنّ اليسرَ بعد العسرِ يأتي وعند الضيق تنكشف الكروبُ

وكم جَزِعتْ نفوسٌ من أمورٍ أتــــى من دونِهــــــا فــــــرجٌ قريــــــبُ

كم نظنُّ خيرًا ما هو شرٌّ! وكم نظنُّ شرّا ما هو خيرٌ! وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وقال لابنِ عباس رضي اللهُ عنهما: ((واعلم أن النصر مع الصبر، والفَرَجَ مع الكرْب، وأنّ مع العسرِ يسرًا)) رواه أحمدُ وصحّحه الألباني، وكتب عمرُ لأبي عبيدة : (ما نزل بامرئٍ من شدة إلا جعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين).

وحينما تدلهمّ الخطوب وتعمّ الرزايا تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتلتاثُ عقولُهم، وتطيش أحلامُهم، فإذا بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذي يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون، هنالك تقَع الحيرةُ ويثور الشكّ، وتروج سوقُ الأقاويل وتُهجَر الحقائقُ والأصول، وتُتَّبع الظّنون وما تهوى الأنفس، ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير. وفي معامِع الغفلةِ ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم، وكيفَ ينسى ذلك وهو يَتلو كتاب ربِّه بالغداة والعشيّ وفيه بيانُ هذه الحقيقة بجلاءٍ لا خفاءَ فيه، ووضوحٍ لا مزيد عليه، حيث قال سبحانه: الم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَٰذِبِينَ؟!

يقعُ القدر ويحِقُّ القولُ ولا يملك الناسُ أمامه إلا التسليم، ويطلبون من عقولهم التحكيم، وأنْ يُحاسبَ من ظلم غيرَه بحقٍّ وأساء إلى الناس من طرْفٍ خفيٍّ وجليّ، فلئن كانت سنةُ اللهِ وقدرُه قد نفذت في خلْقِه لحكمة لا يعلمها إلا هو فإنه لا بد من إيقاف العبث، وتحريك الماء الراكد، وبعثرةِ الخبايا، وكشف الزوايا، فتفريط البشر المقصود وعبثهم بأرواح الآخرين.

إنّ الرقصَ على مصائب الناسِ لا ينطلي على العقلاء، ولا يغُذُّ سيرَه إلا اللؤماء. لا نريد التطورَ المزعومَ إذا كانت الأرواحُ مهدّدة، ولا نريد زيفَ الشعاراتِ إذا كانت النفوسُ مشرّدة! أين احترامُ مشاعرِ الناس وعواطِفِهم وهم يرون عاما كاملا وشهرينِ ويزيد ولا يرون حقائقَ في أرضِ الواقع، وعملا من قويٍّ أمينٍ يحفظ كرامتَهم ويصون دماءَهم وأحوالَهم؟! وليست أزمةُ عامِنا كأزمةِ العامِ المنصرمِ فلا قياس، ثمَّ ألم تَضِعِ الأمانةُ؟! ألم يوكّلِ الأمرُ إلى غيرِ أهلِه؟!

إننا لا نشكُّ أن دولتَنا تضخُّ مالا وفيرا يُحسبُ خزائنَ في بعض الدول، ولكن أين تُراها تطيش؟! أين تُراها تطيش؟! يقول : ((ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه، فيصبح الناس يتبايعون، حتى إذا رأوا رجلًا أمينًا عجبوا، وقالوا: إن في بني فلان رجلًا أمينًا! وحتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أعقله! ما أظرفه! وليس في قلبه حبة خردل من الإيمان)) رواه الشيخانِ في باب رفع الأمانة.

أفلا يستحي هؤلاء المقصِّرون من الخلق إنْ لم يستحيوا من الخالق؟! أفلا تغشاهم انتباهةٌ من الغفلة قبل أن تفْجأَهم سطوةُ القويِّ الجبّار؟!

نعم إنها ذنوبُنا، ما بُلينا إلا بها، ولن يُرفَعَ البلاءُ إلا برفعها من واقعنا الأليم، يوم تنكَّبْنا الصراطَ، وضيّقْنا على الحقِّ الخِناق، وحلَّ الشقاقُ والنفاق، وقُرِّب الخؤونُ، وخُوِّن الأمين، وصُدِّق الكَذوبُ، وكُذِّب الصَّدوق. ألا فلننتظرِ الساعة، لا نقولُ: جزْما وقطعا إنها عقوبات، ولكن ما يُدرينا فقد تكون مَثُلات، وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ.

ولا ينبغي أن تأخذَنا أحاديثُ المجالسِ والإعلام لنقولَ: إنها مجاري السيولِ والسلام! بل لا بدّ من البَصَرِ بالأسباب وعدمِ الغفلة عن سوءِ العقاب، ويا قبحَ مَن يَفِدُ على ربِّه يوم التناد ورقبتُه محمَّلةٌ بحقوق العباد! ومَن ولي من أمر المسلمين صغيرةً أو كبيرة فليعلم أنّ الحسابَ الحقَّ هناك وليس هنا. وفي الحديث الحسن عند البيهقيِّ وغيرِه وحسّنه الإمامُ الألبانيُّ رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1763) عن ابن مسعود قال: (القتلُ في سبيل الله يكفِّر الذنوب كلَّها إلا الأمانةَ)، ثم قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قُتل في سبيل الله فيقال: أدِّ أمانتَك، فيقول: أي ربّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانتُه كهيئتها يوم دُفعت إليه -اللهم لطفَك-، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركَها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر ظنّ أنه خارجٌ، زلّتْ عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين -أي وقتَ مكثِه في النار وما أطولَه ولو كان خارجا!- ثم قال: الصلاة أمانةٌ، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة)، وأشياء عدّها، قال: (وأشدُّ ذلك الودائع). قال -يعني زاذان-: فأتيت البراءَ بنَ عا+ٍ فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابنُ مسعودٍ؟! قال كذا قال كذا! قال: صدق، أما سمعتَ اللهَ يقول: إن اللهَ يأمركم أن تؤدوا الأماناتِ إلى أهلها؟!

ألا فاتقوا الله أيها المباركون، وأدّوا الأمانات إلى أهلها، وحاذِروا الغِشَّ والخيانة؛ فإنها بئستِ البطانة، وسَلُوا اللهَ أن يُخليَ رقابَكم من حقوق الآدميين، ومن العبث في دمائهم وأعراضهم، ولا يجعلنَّ أحدُكم مآسيَ الناسِ متندَّرا في مجالسِه، ولا تُكْأةً لحبائلِه وأغراضِه الشخصيّة، أو يستغلَّ حاجةَ محتاجٍ في كشفِ عِرْضه أو إصابةِ عَرَضِه، ولا يَطَّلعَنّ على عورةِ أخيه المسلم في حينِ غفلةٍ منه؛ فقد صح عند أحمدَ وغيرِه وهو في صحيح الجامع: ((لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).

بارك الله لي ولكم في القرآن وآياته، وفي صحيحِ السنة وعظاتِه. وأقول قولي، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات الأحياءِ منهم والأموات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو البَرُّ الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلام على النبيِّ المجتبَى، وعلى آله ومن اصطفى، وسلَّم تسليما مزيدا.

أما بعد: فالسكينةَ السكينةَ عبادَ الله، والحكمةَ الحكمةَ، والصبرَ والتصبُّرَ، فما أُوتي عبدٌ كالتؤدةِ والسكينة.

واحفظوا سلامتَكم ومَنْ ترعَون، وابتعدوا عن مواطنِ الرِّيَبِ، وجانبوا التخبُّطَ والنزقَ، ولا تتبعوا كلَّ ناعق، ولا تصدِّقوا كلَّ زاعق، والزموا الجماعةَ والطاعة، وخذوا شأْنَكم بالتعاون والتكاتف، وبادروا إلى التطوُّعِ والنفع، ولا تُمْضوا يومَكم بالبطالةِ والسلبيَّة، وكونوا كما يُطْلبُ منكم رجالا صالحين مصلحين وفي الهدى والخيرِ مسْهمين. شاركوا إخوانَكم في الجمعيَّاتِ الخيريّةِ في مثلِ هذه الأزمة.

ولا تكتفوا بالحوقلةِ والحسبنة أو الانقطاعِ والرهبنة، أعينوا إخوانَكم في المستودعِ الخيريِّ أو جمعيَّةِ زمزم أو غيرِها من الجمعيَّاتِ المباركةِ، أو الهيئةِ التي فُرِّغ ستُّمائةِ موظَّفٍ احتسابًا بقرارٍ حكيمٍ يُسجَّل لرئيسِها المباركِ لنفع الناسِ وإعانتِهم وغَوْثِهم في مثل هذه الأزمات والنكبات.

والمستودعُ الخيريُّ بجدة يستقبل المتطوعين في مركزه في الشمال في مسجد الإحسان بحيِّ النزهة، فليبادر مَنْ يرى نفسَه نافعا في هذا الباب العظيم من نصرةِ المحتاجين، فبمثل هذا تحيا القلوب. واقطعوا الطريقَ على الآثمين الذين يُزْكِمُون أنوفَنا بدخانِ عفوناتِهم وهرطقاتِهم حين يُخْرجون الفتياتِ للتصويرِ الإعلاميِّ ولحاجاتٍ في نفس الشيطانِ قضاها! يزعمون أنها تغيث الملهوفَ وتفكُّ العاني وتَحملُ الكَلَّ، وهم يريدون ما وراءَ الأكمةِ. ووراء الأَكَمَةِ ما وراءَها!

لا بدّ -عبدَ اللهِ- من حفظِ اللسان، وربطِ الجَنَانِ بالثقةِ بالرحمن، وأن نحذرَ الإرجافَ والتخبُّط والتهوُّرَ والنَزَق، وأن نكافحَ الفسادَ في شأْننا كلِّه، وأن يؤدّيَ كلُّ واحدٍ ما استرعاه اللهُ من الأمانة، وأن نصدقَ اللَّجَأَ إلى الله، وأن نتوبَ إليه من تقصيرِنا وذنوبِنا، علَّه أن يتوب. وفي الحديثِ القدسيِّ الصحيحِ يقول النبيُّ : ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي)).

فلنتبْ إليه، ولننطرحْ بين يديه، ولندْعُ موقنين بالإجابة.

اللهم يا عظيمَ المنِّ، يا كريمَ الصفحِ، يا حسنَ التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسطَ اليدين بالرحمة، يا صاحبَ كلِّ نجوى، ويا منتهى كلِّ شكوى، يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقِها، يا خالقَنا ويا سيّدَنا ويا غايةَ رغبتِنا، ويا منتهى رجائنا، يا من أظهر منّا الجميلَ وسَتَرَ القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، اللهم صلّ على عبدِك ورسولِك سيدِنا محمد، اللهم اجعل لنا مما أصابنا من همٍّ فرجا ومخرجا, ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً، واجعل ما أصابَنا خيرا لنا في دينِنا ودنيانا، اللهم لا تؤاخذْنا بما يفعل السفهاءُ منّا، ولا تحرمْنا خيرَ ما عندِك بشرِّ ما عندَنا، وهيِّئ لنا من أمرنا رَشدا...