molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: شجرة الأوقاف الخيرية - سعود بن إبراهيم الشريم الجمعة 11 نوفمبر - 5:27:36 | |
|
شجرة الأوقاف الخيرية
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
أمَّا بعدُ: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله سبحانه، واعلموا أنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمَّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وأنّ كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس، لا تزال أمّةُ الإسلام بخيرٍ وسلامة ورقيٍّ ما شاعت بينهم روحُ التعاون والتكافل والشعورِ بالآخر، بعيدًا عن مراتِع الأنانيّة والأثَرَة، وهي لا تزال بخيرٍ أيضًا ما أحسَّ الغني بمسغَبَة الفقير، وأبصر قلبُ الواجد فِراشَ ذي الإملاق، ولامس سمعه وبصرُه أصداءَ المعدِمين وأنّات المثقَلين.
إنَّ أيَّ أمّة يُرَى في واقعِها هوّةٌ وجَفوة ووَحشة وتنافرٌ بين الغنيّ والفقير والصغيرِ والكبير والشريفِ والوضيعِ لهي أمّةٌ مفكَّكة الأواصر، أمةٌ أفئدةُ ذويها هَواء، أمّةٌ فاقدةٌ لأبسَط مقوِّمات الرقيِّ والاستقرار والتوازن الاجتماعي والاقتصاديّ المنبثِق عن روحِ التديُّن والإيمان بأنّ الإسلام شَريعةٌ للفردِ والجماعَة ومَنهجٌ اقتصاديّ وثقافيّ واجتماعيّ وسياسيّ على حدٍّ سواء.
ألا وإنَّ من أعظم ما يشدُّ من أزرِ المجتمعاتِ ويوثِّق الصلاتِ بين الطبقاتِ المختلِفة مادّيا واجتماعيًّا فيها هي الأوقاف الشرعية الخيرية، نعَم الأوقاف التي ميَّز الله بها أمّةَ الإسلام عمّن سواها، كونَها تحبيسًا لوجوهِ البِرّ، وذلك من خصائصِ أمَّةِ الإسلام من بين سائر الأمم، فقد قال الشافعيّ رحمه الله: "لم يحبِّس أهلُ الجاهليّة فيما علمتُه دارًا ولا أرضًا تبَرُّرًا بحَبسها، وإنما حبَّسَ أهل الإسلام" انتهى كلامه رحمه الله.
إنَّ شجرةَ الأوقاف الخيرية تمتدُّ جذورها إلى عهدِ صاحب الرّسالة صلوات الله وسلامه عليه، فإنه كان أجْوَدَ الناسِ وأبرَّ الناسِ وأتقى النّاس دَعوةً إلى التلاحُم والتآخي، وأحزَمَ دِلالةً على رفعِ الفَقر وكفِّ المسغَبة؛ امتثالا لأمرِ خالقه جلّ وعلا في قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 11-16].
الوقف -عبادَ الله- نوعٌ من أنواع الصدقات المندوبَة، غيرَ أنه أفضلُها وأدوَمها وأتقنُها وأعمُّها.
الوقف -عبادَ الله- علوٌّ للواقفِ وعزيمةٌ مؤكَّدةٌ للقضاءِ على الجشَع والشُّحِّ وحبِّ الذات.
الوقفُ رحمةٌ وإحساسٌ نبيل ودَعمٌ بالغٌ لاقتصادِ المجتمَع المسلم؛ لأنَّ الأوقافَ الخيريّة تُعدُّ من أهمِّ مقوِّمات المجتمعات الناجحة اقتصاديًّا؛ إذ يمثِّل أحدَ محوَرَي الاقتصاد، وهو المحوَر الأهلي المؤسسيّ.
الوقف -عباد الله- هو أحدُ الأمور الثلاثة التي لا تنقطع بوفاةِ المرء وفراقهِ للحياة الدنيا؛ إذ هو الذي قال عنه : ((إذا مات ابنُ آدمَ انقطَعَ عملُه إلا مِنْ ثلاث: صَدقةٍ جارِية، أو عِلمٍ يُنتفَعُ به، أو وَلدٍ صالحٍ يدعو له)) رواه مسلم.
ومن هذا المنطلقِ ضرَبت أمةُ الإسلام فيما مضى أرقى الأمثلة على جدارتها وقدرَتها على الرّيادة وتبوُّؤ مكان الصّدارة التي سمَت بسببِها النزعة الإنسانية بين أفرادِها، بل تعدَّى الأمر إلى أبعَدَ من ذلكم، حيث طالت بعض الأوقاف أعلاف البهائم ونحوَها.
وإنَّ أوَّل من بادر إلى مثل هذه الأوقاف هم أصحابُ النبي ، فقد ذكر الحميديّ شيخ البخاري رحمهما الله تعالى أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه تصدَّق بداره على ولَده، وعمر بِرَبعةٍ –أي: دار- عند المروة، وعثمان برومة بئرٍ في المدينة، وتصدَّق عليٌّ بأرضه بينبع، وتصدَّق الزّبير بدارهِ بمكّة ودارِه بمصر وأمواله بالمدينَة على ولَده، وتصدَّق سعدٌ بداره بالمدينة ودارِه بمصر على ولَده، وعمرو بنُ العاص بالوَهط ودارِه بمكّة على ولده، وحكيم بن حزام بدارِه بمكّة والمدينةِ على ولده. رواه البيهقي. بل قال جابر رضي الله عنه: لم يكن أحدٌ من أصحاب النبيّ له مقدرةٌ إلى وَقَف.
لقد بلغَت أمةُ الإسلام في الأوقاف ذروتها التي لم يصل إليها أحدٌ من قبل، فأقاموا المؤسَّسات الاجتماعية لوجوه البرّ والخير، فأوقَفوا للعلم، وأوقفوا للقضاء، وأوقفوا للصّحَّة، وأوقفوا للفقر، وأوقفوا للقرآن وحفَظَته، وأوقفوا للمساجد والمدارس والأئمّة والعلماء، وغير ذلك، حتى قضَوا بذلكم على بواعِث الشحِّ التي يَؤزّ إليها الشيطان أزًّا ليُرهِبهم بالفقر وخوف العَيلة، فكان سلاحَهم في ذلك قولُ الله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لما نزلت مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245] قال أبو الدَّحداح: يا رسول الله، وإنَّ اللهَ يريدُ منَّا القرض؟! قال: ((نعم يا أبا الدحداح))، قال: فإني أقْرضْتُ ربي حائطًا فيهِ ستمائة نخلة، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائِطَ وفيه أمُّ الدَّحداح في عيالِها، فنَادَاها: يا أمَّ الدحْدَاح، قالت: لبَّيك، قال: اخرُجِي؛ فإني قدْ أقرضتُ ربي حائطًا فيه ستمائة نخلة. رواه البزار وصححه الهيثمي. وفي بعض الروايات أنها قالت: ربحَ بيْعُكَ أبَا الدَّحْداح.
فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5-10].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: أيها الناس، إنَّ من يقرأ تاريخَ الأوقاف عبرَ العصور ليجِدنَّ أمرًا عجبًا، وليلْحظنَّ بأمِّ عينِه المساحة الواسعةَ للأوقاف في الدولةِ الإسلاميّة، حتى لقد بلغَت بعضُ البلاد الإسلامية آنذاك مبلغًا عظيما في جانب الأوقاف، فلقد حُصرت المساحات الزراعيّة فيها فوُجِد أنَّ ثلثَي تلك المزارع قد أُوقفت وقفا خيريًّا أو ذُريًّا.
غير أنّ الرامقَ ببصره والمصغيَ بأذنِه في زمنِنا هذا ليدرِك عمقَ الهوّة بيننا وبين ماضينا في بابِ الأوقاف، ولسوف يرَى مدَى انحسارِ الوقفِ في عصرِنا الحاضر ليغيبَ عن تواجُده المعهود أزمانًا خَلت، والذي يرجِع سببه إلى الجَهل بقيمتِه وفضلِه، وإلى التسويفِ والتأجيل إلى أن تحلّ المنية ثُمَّتَ لا وقف. وللشح دورٌ غلاب لدى كثير من ذوي السّعَة والوجد، إضافة إلى ضعف الثقةِ بنُظّار الأوقاف أو أمنائها؛ ما يحدِث ردّةَ فعل ع+يةٍ ناتجة عن بعضِ الممارسات السلبية من قبلهم، والواقعُ خير شاهدٍ على هذا.
والعجبُ كلّ العجب -عباد الله- ممن وهبهم الله تلك الملايين المُمَلينة وأُسبغت عليهم نِعَم الله ظاهرةً وباطنة، ثم هم لا يحدِّثون أنفسهم بالوقف حديثًا متبوعا بالعمل، فكم من غنيّ وَجَد فوجد، ثم فاجأته المنية، فلم يجِد بعد مماته ما كان في حياته قد وجد، أفنى عمره في جمع المال وتعداده، وكأنه خزانةٌ لمن بعده، يجثُم الشيطان على قلبه يخوِّفه من العيلة إن أوقفَ من ماله شيئًا، وما درى مثلُ هذا المسكين أنَّ المشَاهَد في كثير من واقع الموسرين أنهم يموتون ولما يوقِفوا شيئًا من أموالهم، ثمّتَ يذهب ما يجمعون شذَر مذَر، والرابح منهم من ذكَره أحد ولده بخير فتصدَّق عنه حينًا ونسيَه أحيانا كثيرة.
ولأجل هذا -عباد الله- فإنّ الأصلحَ لكلّ موسِر عُدّت تركتُه بالملايين أن يقدِّم الوقفَ على الوصية انطلاقا من خبرات مختصّين ومشاهدةِ سابرين لواقعنا المليء بالثروات الشخصيّة؛ وذلك لأجل سببين مهمين:
أولهما: أنّ الوقف منجَّزٌ في حياته، وبإمكانه إدارته بنفسه ما دام حيًّا، فإذا جاء أجل الله سار وقفه على ما هو عليه لا تقطعه وفاته، بخلاف الوصية، فإنّه لا يدري أقيمت بعدَ موته أم لا.
وثانيهما: أنَّ الغالبَ في تركاتِ الموسرين العظيمة أن تمضيَ عليها السنون الطوال ولما تُقسَم بعد بسبب تشعُّبها وكثرتها وخلافِ ورثتها؛ فتتعطَّل الوصيةُ تعطّلا بالغًا بسبب ارتباطها بالقِسمة، بخلاف الوقف، فإنه قد أُنجز إبّان الحياة، فلا علاقة له بقسمة التركة. فكم من ميت مضت على وفاته السنةُ والسنتان والعشر والعشرون ولا تزال وصيّته حبيسةَ التصفية وحَصرِ التركة، بخلاف الوقف، فإنه ينال أجرَه وهو حيّ يدركه ويشعُر به ويتلذَّذ به، لا مِنَّة لأحد في تنفيذه، ولا عوائق تحول بينه وبين إتمامه.
كما أنه ينبغي أن يُعلَم أنَّ أهلَ العلم رحمهم الله ذكَروا أن للواقف أن يشتَرطَ الاستفادةَ من غلّة وقفه ما دام حيًّا تحسّبًا لنوائب الحياة قبل مماته، فإن شاء أخذ منه، وإن شاء أنفقه، فإذا مات بعد ذلك صار حتمًا إلى وجوه الخير والبر. ولقد صدق رسول الله إذ يقول لأصحابه: ((أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أحبّ إليهِ مِنْ مالِه؟)) قالوا: يا رسولَ الله، ما منَّا أحدٌ إلا مالُه أحبّ إليْهِ، قال: ((فإنَّ مالَه مَا قدَّم، ومَال وارثِه ما أخَّر)) رواه البخاري في الأدب المفرد.
ألا إنَّ المال غاد ورائح ومقبل ومدبِر، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل كما قال رسول الله : ((أفضَلُ الصَّدقَةِ مَا كَانَ عنْ ظهْرِ غِنَى)) متفق عليه. ورضي الله عن عمر الفاروق الملهَم، فقد خرج يوما إلى البقيع فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، أخبارُ ما عندنا أنَّ نساءَكُم قد تزَّوجْن، ودُوْرَكُم قدْ سُكِنَتْ، وأموالَكُم قَد قُسمت، فأجابه هاتف: يا عُمر بن الخطاب، أخبارُ ما عنْدنا أنَّ ما قدَّمْنا وجدْنَا، وما أنفقْنَا فقَد ربحْنَا، وما خلَّفنَاه فقدْ خسِرنَاه.
أَلا إنَّ مَنْ رامَ الفلاحَ لنفسِه وفازَ مِــــــــــــن الدُّنيا بمـــــــــــالٍ وَافِي
فَلا بُد أنْ يسعَى حثيثا لبذلِه ويُخــــــــــرجَ بعضًـــا منه للأوقـــــــافِي
فـــذلِك فــــوزٌ للغنيِّ وبلــــــــغــــةٌ ليجني في الأُخرى عـظيمَ قِطافِي
هذا، وصلّوا -رحمكم الله- على خير البرية وأ+ى البشرية...
| |
|