molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: بين يدي رمضان - أحمد بن عبد الكريم نجيب الثلاثاء 18 أكتوبر - 10:28:43 | |
|
بين يدي رمضان
أحمد بن عبد الكريم نجيب
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذّركم وبالَ عصيانه ومخالفة أمره، وأذكّركم أنّ الله تعالى يصطفي من خلقِه ما يشاء، ويفيض من بركاته ونعمائه على من يختصُّهم بفضله وكَرَمِه من العباد والأزمان والبلاد.
ونحن اليوم بين يَدَيْ موسمٍ من مواسم الخير والبَرَكة، اختصّه الله بما شاء من فضله وكَرَمه، فأنزل فيه أفضَل كُتُبَه، وتعبّدَنا فيه بالصيام والقيام والإطعام، فجَعلَ صيام نهاره فريضةً، وقيام ليله نافلةً، وفضّل لياليَه على سائر ليالي السنّة، واصطفى من بينها ليلةً سلامٌ هي حتى مَطلَعِ الفَجر، وخيرٌ هي من ألفِ شَهر.
وإنّ غائبًا يعود مرّة في العام لأهلٌ أن يُتهيَّأ لاستقباله ويُستعدّ لقدومه، وبخاصةٍ إذا كان خيره وبركته عمِيمَين، فطوبى للمشمّرين.
ما فتئ رمضان يعود علينا عامًا بعد عام، ونحن نخرج منه كما نلقاه، وقليل منّا من يكون بَعدَه على أحسن ممّا كان عليه قَبْلَه، أفلَم يأنِ لنا أن نعزم على اغتنام موسم قد لا ندركه فيما نستقبل من أعوام، ونكفّ عن التسويف والتأجيل وعَدَم المبالاة وقلّة الاهتمام؟!
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
عباد الله، إنّها فرصة لا يُفوِّتُها إلا متهاون مغبون، ولا يزهد فيها إلاّ جاهل محروم، أما من أنار الله قلبه ونقّى فؤادَه، فتراه يستعد لرمضان قبل أن يلقاه بأمور كثيرة، من أهمّها أن يُقدّمَ بين يديه صيام شعبان جلّه أو كلّه، تأسيًا بنبيّه الذي دأبَ على ذلك، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان. وكان يقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) رواه البخاري.
وليس المقصود بذلك المواظبة على صيام شعبان كلّه، ولكن المقصود هو الإكثار من الصيام فيه. قال ابن المبارك كما في سنن الترمذي: "جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليله أجمَعَ، ولعله تعشَّى واشتغل ببعض أمره". ويؤيد هذا ما رواه مسلمٌ في صحيحه عن الصدّيقة رضي الله عنها أنّها قالت: كان يصوم شعبان إلا قليلاً. غير أنّه يُنهى عن تخصيص النصف الثاني من شعبان بالصيام؛ لحديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي وحسّنه والحاكم وصحّحه أنّ رسول الله قال: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)). أمّا من صام في أوّل الشهر فلا جناح عليه أن يصوم نصفه الثاني بَعضَه أو كلّه، وكذلك من كانت له عادة صيام صامها، كيومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، فيصومهما ولا حَرج. ولا يجوز للصائم أن يتقدّم رمضان بصيام يومٍ أو يومَين؛ لحديث الصحيحين: ((لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صومًا فليصم)).
ولهذا النهي حِكَمٌ جليلةٌ، منها الاحتياط لرمضان لئلا يزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل؛ لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، كما في النهي عن وصل صلاة مفروضة بصلاةِ نافلةٍ حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ومنها التقوي على صيام رمضان؛ فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض.
وممّا ينبغي أن يُستقبَل به شهر الصيام والقيام أيضًا، المبادرة بالتوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها، والإكثار من الطاعات دِقِّها وجِلِّها، فهذا زمان التوبة.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبِ حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقـد أظلك شهر الصوم بعدهمـا فلا تصيِّره أيضًا شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيـه مجتهـدًا فإنـه شهر تسبيـح وقرآن
عباد الله، كم من أخ نعرفه صام معنا وقام في رمضان الماضي وما قَبله، ثمّ صار إلى عالَمِ الدود واللحود، بعد أن استلّه هاذم اللذّات من بينِنَا، وسيأتي الموت على الجميع، إن عاجلاً وإن آجلاً.
تمر بنـا الأيـام تترى وإنمـا نساق إلى الآجال والعين تنظر
فليسَ عن لُقيـا المنيّةِ صارفٌ وليس من يدري الأوان فيُنذِر
يا نفس فالتمسي النجاة بتوبة فبتوبتِي نَحو النجـاة سأُبْحِرُ
فهلا اغتنمنا هذه الفرصة للتزوّد، فإنّ خير الزاد التقوى، وهي الغاية الكبرى من مشروعيّة الصيام، قال تعالى: يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:].
فالصائم الصادق الصالح هو الذي يتّقي الله في صومه، فيصوم جوفه وفرجه وسائر جوارحه صومًا يكفّه عن المعاصي، ويحجزه عن الحرمات، فلا يقول إلاّ خيرًا، ولا يسمع إلاّ خيرًا، ولا يفعل إلاّ خيرًا، ويُقلِع عن قول الزور والعمل به، فمن لم يكن كذلك فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، كما صحّ بذلك الخبر عن خير البَشَر فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه.
كيف لا وللصيام منزلة رفيعة بين العبادات؟! ففي الحديث القدسي الذي رواه الشيخان يقول ربّ البريات: ((كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها، إلاّ الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)). والحكمة في ذلك أنّ الصوم سرٌ بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه أحد سواه. وقيل: قوله: ((فإنّه لي)) أي: لم يُتعبَّد أحد بمثله إلا أنا، فالعباد يركعون لبعضهم ويسجدون، وينفقون تزلفًا وتملّقًا، ويقصد بعضهم بعضًا، إلى غير ذلك مما يصرفه بعضهم لبعضٍ من الأعمال، أمّا الصوم فلا يُعرَف أنّ أحدًا يصوم لأحدٍ غيرِ الله.
والمؤمن الرشيد ـ يا عباد الله ـ يقدّم بين يدي رمضان توبة تحجزه عن الملاهي والمنكرات التي تكتظ بها وسائل الإعلام والإجرام، ويتزوّد بالتقوى والإنابة قبل تزوده بالطعام والشراب والثمار المستطابة.
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبـان المبـاركْ
فيا من ضيَّع الأوقـات جهلاً بقيمتهـا أفِق واحـذر بَوَارَكْ
تدارَك ما استطعت من اللّيالي فخير ذوي الفضائل من تداركْ
وعليكم في رمضان خاصة بكتاب ربّكم خيرًا، فإن القرآن ورمضان شفيعان مشفّعان يوم القيامة، ((يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) كما في الحديث المسند.
منع الكتاب بوعده ووعيـده مُقَل العيـون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه فهمًا تذل له الرقاب وتخضع
وفّقني الله وإيّاكم لخيرَيْ القول والعمَل، وعصمنا من الضلالة والزلل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أمّةَ الإسلام، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله، إنّ من رحمة الله أن نُدرك شهرَ رمضان في هذه الأعوام في فصل الشتاء الذي قال عنه بعض السلَف: "الشتاء ربيع المؤمن؛ قَََصُرَ نهارُهُ فصامَه، وطالَ ليلُه فقامَهُ". وهذا مصداق لقول النبيّ كما في حديث عامر بن مسعود : ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة))، وإسناده حسن كما في صحيح الجامع. فاستعينوا بالنعمة على النعمة يا عباد الله.
ولا يفوتني ـ والحديث عن موسمٍ من مواسم الخير ينبغي لنا اغتنامه ـ أن أشير إلى أنّ الأيّام القادمة حُبلى بموسمٍ من مواسم الشرّ ينبغي لنا أن نحذَره ونحذّر منه، ذلكم هو ما يُعرَف عند أهله بيوم الهَلَوِين، اليوم الأخير من شهر أكتوبر تشرين الأوّل كلّ عام.
يومٌ ورثت أوروبا النصرانيّة الاحتفال به عن الوثنيّة الإيرلندية التي كانت تعظّمه قبل الميلاد بزمنٍ طويل، باعتباره أحد الطقوس الوثنيّة الموغلة في القِدَم، وتحكي أساطيرُهم قصصًا عن منشأ الاحتفال بهذا اليوم، أشهرها تلك التي تعتبر اليوم الأول من شهر نوفمبر تشرين الثاني يوم تتلاقى فيه شهور الحياة وشهور الموت كلّ عام، فتخرج الأرواح، وتنتشر الأشباح، وتروج شعوذات السحرة، وطلاسم المشعوذين الفجرة.
ويغلِق الناس على أنفسهم الأبواب خوفًا من الأرواح الشرّيرة ليلاً، ويخرجون في اليوم التالي زرافاتٍ ووِحدانًا في مسيرات تنكّرية هستيريّة، يلبسون فيها الأقنعة، ويقرعون الأجراس والطبول، ويعزفون الأنغام الصاخبةَ الطاردة للأرواح الشريرة في زعمهم.
أمّا في البيوت فيعدّون أصنافًا محدّدةً من الأطعمة والحلوى، أشهرها، ويضعون أمام باب كل بيتٍ من بيوتهم قرعةً رطبةً، أخرجوا لبّها وبَقروا قشرها ليصنعوا منها هيكلاً يشبه وجه الإنسان، فإذا طَرَق بابهُم طارقٌ من الصبيان خَرجوا إليه ببعض ما صنعوه من الحلوى بهذه المناسبة، إرضاءً له، وخشية أن يكون روحًا شريرة قادمة من عالم الموتى متنكرًا في صورة طفل صغيرٍ، يلحق بهم الأذى ما لَم يُرضوه.
وفي هذه المناسبة الوثنيّة تعطّل دوائر الدولة والمؤسسات العامّة يومًا، والمدارس والمعاهد أسبوعًا، لإتاحة الفرصة أمام من يحتفون ويحتفلون بهذه المناسبة.
ولا ريب في أنّ مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات من كبرى المحرّمات؛ لما فيها من اللغو والزور، ودأب المؤمنين أنّهم لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وقد روي عن كثيرٍ من السلف قولهم في تفسير قوله تعالى: لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أنّها أعياد المشركين.
وروى أبو داود والنسائي وغيرهما بإسناد على شرط مسلم عن أنس بن مالك ، قال: قدِمَ رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله : ((إنّ الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف نهى أصحابه عن اللعب في يوم لعبهم في الجاهليّة؛ تأكيدًا على تميّز المجتمع المسلم وعدم مشاركة المشركين، فضلاً عن تقليدهم ومتابعتهم في أعيادهم ومناسباتهم.
وإذا كان عمر بن الخطّاب منع أهل الذمة من إظهار أعيادهم في بلاد المسلمين ووافقه على ذلك الصحابة فكان إجماعًا سكوتيًّا منهم على ذلك، فإنّ قياس الأولى يتّجه إلى تحريم مشاركة المسلم لأهل الذمّة في أعيادهم في ديار الإسلام، وأشنع منهم وأغلظ في التحريم مشاركتهم في ذلك في دار الكفر أو الحرب.
كما يحسن التحذير ممّا دأب عليه قومٌ لا يعرفون الله إلاّ في رمضان، حيث يقبلون بشغف على محارم الله فينتهكونها بين يدي هذا الشهر الفضيل، فيختمون شعبان بالمعاصي التي سيُحال بينهم وبينها بالصيام في رمضان، وحالهم كما قال قائلهم:
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليـلك بالنهار
ولا تشـرب بأقداح صغـار فإن الوقت ضاق عن الصغار
ولهؤلاء وأمثالهم من المقيمين على المعاصي ويغفلون عن علاّم الغيوب نَصيب من قوله تعالى: ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ والإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فاتّقوا الله يا عباد الله، وتزوّدوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه، وصلّوا وسلّّموا على نبيّه وآله وصحبه ومن والاه، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، إذ قال ربّ العالمين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
| |
|