تنبيهات في الحج على على الكتابة المسماة (افعل ولا حرج) (1)
الشيخ العلامة/ عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على رسالة توسَّع كاتبها في التيسير في أعمال الحج، سماها: (افعل ولا حرج)، استكثر فيها من التقريظات لها حتى أوشكت أن تساوي حجمها، إذ بلغت التقريظات اثنتين وأربعين صفحة من جملة صفحاتها البالغة اثنتين ومائة صفحة، ومن اطمأن إلى كتابته لا يحتاج إلى الاستكثار من التقريظات.
وقد رأيت التنبيه على أمور فيها نصحاً لكاتبها ولغيره ممن يطلع عليها:
التسمية باسم (الإسلام اليوم) تسمية غير سليمة
الأول: ذكر كاتبها أنها نُشرت في موقع (الإسلام اليوم)، وفي بعض الصحف السيارة، ووضع على غلاف الرسالة:(16 كتاب الإسلام اليوم) وهذه التسمية عجيبة غريبة، فإن الإسلام هو الإسلام: اليوم وبالأمس وغداً، ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا شك أن الحق والهدى في كل زمان ومكان فيما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال الإمام مالك رحمه الله: (لا يُصلح آخر هذه إلا ما أصلح أولها) عَزاه إليه القاضي عياض في الشفا (2/72) وابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/231)، وذكر الشاطبي في الاعتصام (1/28) أن ابن الماجشون قال: سمعت مالكاً يقول:(من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة، لأن الله يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دًينَكُمْ)، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً)، وما أجمل هذه الكلمة للإمام مالك رحمه الله، وهي قوله:(فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم ديناً)، والمعنى أن ما لم يكن ديناً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون ديناً إلى قيام الساعة.
وهذه الكتابة المسماة (افعل ولا حرج) هي الكتاب السادس عشر من كتب ما سُمي (الإسلام اليوم) وقد اشتملت على تهوين أمر المسائل الخلافية في الحج وانتقاء منها ما فيه ترخيص وتيسير غير منضبط ولو كان مرجوحاً أو شاذاً، وهي من التجديد غير السديد.
توسعه في الاستدلال بحديث (افعل ولا حرج)
الثاني: قال الكاتب (ص:63):(ومع هذا جعل الله في الحج سعة لا توجد في غيره من العبادات، ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدًّم ولا أُخًّر إلا قال: افعل ولا حرج)، وهكذا يحسن أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه أو في جنس ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج).
وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأعمال يوم النحر الأربعة: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، وقد حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم فعل بعضها على خلاف ترتيبه، فسألوه فأجابهم بأن لا حرج، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن ذلك يوم النحر، وأنه ما سُئل عن شيء يومئذ إلا قال:(لا حرج)، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن ذلك كان في مساء يوم النحر، فقد روى البخاري في صحيحه (1735) عن ابن عباس قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل يوم النحر بمنى، فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، قال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: لا حرج)، وروى البخاري (1737) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا: حلقت قبل أن أنحر؟ نحرت قبل أن أرمي؟ وأشباه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، لهن كلهن، فما سُئل يومئذ عن شيء إلا قال، افعل ولا حرج)، ورواه أيضاً مسلم (3163) ولفظه:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة،فقال: يا رسول الله! إني حلقت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، قال: فما رأيته سُئل يومئذ عن شيء إلا قال: افعلوا ولا حرج)، فهذا الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصحيحين فيه أن تلك الأسئلة حصلت يوم النحر عن تقديم وتأخير في أعمال يوم النحر، ولهذا قال:(فما سُئل يومئذ) أي يوم النحر، وهذا يخالف ما أطلقه الكاتب في قوله:(وهكذا يحسن أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه أو في جنس ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج)!!
فركعتا الطواف محلهما بعد الطواف ولا يجوز تقديمهما عليه، وترتيب رمي الجمرات في أيام التشريق رمي الأولى ثم الوسطى ثم العقبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها في أيام التشريق الثلاثة على هذا الترتيب، ولا يقال لمن خالف هذا الترتيب فرمى العقبة ثم الأولى ثم الوسطى: لا حرج، بل عليه أن يعيد رمي الوسطى ثم العقبة ما دام في أيام التشريق، وإن لم يُعد رميها فيها فعليه دم.
ولا عبرة بقول من قال بإجزاء رمي من خالف ترتيبه النبي صلى الله عليه وسلم لرمي الجمرات» لأنه صلى الله عليه وسلم رماها على هذا الترتيب في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة، ولو كان غير هذا الترتيب سائغاً لفعله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد من الأيام الثلاثة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لتأخذوا مناسككم» فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) رواه مسلم (3137)، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(صلّوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري (631)، وعلى هذا فإن المطلوب من المفتي أن يكون شعاره أن يقول للسائل: اتَّبع سنّة نبيك صلى الله عليه وسلم وافعل كما فعل، ولا يرد على ذلك أن جملة من أعمال الحج من المستحبات، كتقبيل الحجر واستلامه واستلام الركن اليماني وصلاة ركعتين خلف المقام بعد الطواف وغير ذلك، لأن رمي الجمرات على ترتيبه هو المطابق لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في أيام التشريق الثلاثة.
وتسميته هذه الكتابة باسم (افعل ولا حرج) واضح في توسعه في الاستدلال بحديث (افعل ولا حرج)، وأنه يشمل الأخذ بما جاء في هذه الكتابة من أقوال مرجوحة أو شاذة.
زعمه أن السنّة المحمدية تجمع التيسيرات المتفرقة في كتب الفقه
الثالث: قال الكاتب (ص:64):(والسنّة المحمدية تجمع التيسيرات التي تفرقت في كتب الفقه، فإن من العلماء من يأخذ بهذه الرخصة ولا يأخذ بالأخرى، ومنهم من يأخذ بغيرها ويدع هذه، بينما السنّة وسعت ذلك كله).
وأقول: إن هذا الكلام عجيب غريب، فإن السنّة لا تسع ما جاء عن الفقهاء من تيسير أو تشديد، بل إن ما جاء عن الفقهاء يُعرض على الكتاب والسنّة، فما وافقهما أُخذ به وعُوًّل عليه، وما خالفهما تُرك وأُعرضَ عنه، ومن أقوال الفقهاء ما يكون شاذاً غير مستند إلى دليل، بل يكون مبنياً على الرأي المجرد، ولهذا يذكر العلماء في تراجم بعض الرواة أنه عيب عليه الإفتاء بالرأي، مثل عثمان بن مسلم البتي، قال عنه الحافظ في التقريب:(عابوا عليه الإفتاء بالرأي)، قال الإمام الشافعي كما في كتاب الروح لابن القيم (ص:395):(أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)، ومن كان من الفقهاء من أهل الاجتهاد فاجتهد للوصول إلى الحق فهو مأجور إن أصابه أو أخطأه مع تفاوت المصيب والمخطئ في الأجر» لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)، رواه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهذا الحديث يدل على أنه ليس كل مجتهد مصيباً الحق، بل يدل على إصابته الأجر، ولو كان كل مجتهد في اختلاف التضاد مصيباً حقاً لم يكن لتقسيم المجتهدين في هذا الحديث إلى مصيب ومخطئ معنى، وعلى هذا فمن العجب أن يقال: إن السنة وسًعت تيسيرات الفقهاء مع ما عُلم من أقوالهم فيها الصواب والخطأ، وهي قاعدة من الكاتب ليس لها قاعدة، وهي من التجديد غير السديد.
وللحديث تكملة في العدد القادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.